الثلاثاء، 1 يونيو 2010

الرجل المسلم.. هل من فرصة أخرى؟!

د. وفاء سـلطان، 4 مارس 2002

السيدة أندرسون مختصة في علم الأنثروبولوجيا، تحب السفر وتعشق الترحال. كتبت الكثير من الكتب عن الشعوب والبلدان التي زارتها. قرأتُ لها كتاباً عن تركيا تقشعر له الأبدان!

زارت مؤخراً مصر في رحلة اطلاعية وترفيهية في آن واحد، قابلتها فور عودتها وطرحت عليها ســؤالاً: "كيف رأيت مصر؟!" ردّت بألم: "مأســــاة!!" على العالم بأسره أن يتحرّك لإنقاذ ذلك البلد الجميل!

خطر ببالي يا وفاء مراراً أن أقف في وسط الشــارع وأصيح، "أيها الناس ارحموا بلدكم وارفعوا مستوى إحساسكم بالمسؤولية تجاهه!"

التلوّث والتخريب البيئوي كارثة تفتك بمصر. يتخلّصون من القمامة بحرقها داخل المدن. الناس لا يتنفسون إلا سموماً، والرجل يشــمّر دشداشته ببساطة ويشــخّ في مياه النيل!.. البلهارسيا استشرت وهي تنتقل عن طريق المياه الملوّثة ببول المصاب.

لا أحد يبدو مهتماً بالأمر. صارت اللقمة هدف الإنســان الأسمى يركض وراءها عبر نفق طويل مظلم ولا يريد أن يكون مسؤولاً عن أي شيء خارج حدود ذلك النفق!

مرعبةٌ هي الحيـاة هنـاك!.. على الأسرة الدوليّـة أن ترتكس لتلك المأســاة!

*********

في المدينة التي نشـأتُ بها أقامت الراهباتُ مدرسة ابتدائية للبنين والبنات. كانت المدرسة لوحة فنّية رائعة حُفرت في إحدى التلال المحيطة بالمدينة، لها باحة واسعة تحيط بها المروج والأشجار ويتوسطها ملعب لكرة السلة وآخر للتنس.

في الزاوية الشرقية أقيم مركز للتدبير المنزلي تُدَرّب فيه البنات على فنون الطبخ والخياطة والتطريز. وخلف المركز دورة مياه تضمّ عدة مراحيض تعكس نظافتُهـا جودة النظام الإداري الذي يشرف على تلك المدرسة.

كانت أسر المسلمين الميسورة في المدينة تتباهى بانضمام أطفالها إلى تلك المدرسة، وكان عددهم يضاهي عدد الأطفال المسيحيين.

تبنّت الراهبات أو مشروع للتلقيح المجاني في المدينة بالإضافة إلى برنامج للعناية بالحوامل والمرضعات. حتى أنني ما زلت أذكر راهبة واسمها سوزان قد أشرفت على ولادة أمي لأختي الصغرى. أطلق والداي على أختي اسم سوزان تقديراً لتلك الراهبة واعترافاً بجميلها.

كنت في الصف الرابع حين أصدرت السلطات السورية على حين غرّة فرماناً يقضي بتأميم المدرسة وإحالتها إلى الملكيّة العامة!

رفعت أسر الأطفال فوراً برقية تهنئة إلى سيادة الرئيس يحيّون قراره الوطني وينددون بالتبعية الاستعمارية!

خلال أقل من شهر، غادرت الراهبات مبنى المدرسة وأُغلق الدير الذي كان يشغل الطابق الثالث. نُقِلَ جميع الطلاب إلى مدرسة ابتدائية أخرى وتغيّر اسم المدرسة من مدرسة الراهبات للبنين والبنات إلى "المدرسة الإعدادية للبنات"

حل بي وبأقراني من الأطفال ما سيحل بأي طفلٍ يُـنْـقَلُ من مدرسة في بفرلي هيلز إلى وكر في أدغال زائير!

بعد ثلاث سنوات أنهيت دراستي الابتدائية وتأهلت للعودة إلى المدرسة نفسها التي رعتني في أولى سنواتي الدراسية.

صُعقتُ رغم حداثة سني في ذلك الزمن. تصحّرت المروج وتحوّلت باحة المدرسة إلى برميل قمامة!.. أقاموا فوق ملاعب التنس وكرة السلة الكثير من الغرف كي تستوعب المزيد من الطالبات، لم تكن تختلف بشكلها المعماري كثيراً عن سجن المزّة!.. تحوّل التراب حولها إلى أكوام من الوحل. انســدّت مجارير المياه وبلغ الخِراءُ في المراحيض مستوى الركبة!!

خلال أقل من ثلاث سنوات تحوّلت بفرلي هيلز إلى الربع الخالي وارتفعت ثرثرات النساء في مجالس القبيلة "رزق الله على أيام الراهبات!!"

لو سألت أي مسؤول بعثي في ذلك الوقت عن سرّ ذلك التصحّر الرهيب لردّ على الفور: "لعن الله الإمبريالية الأميركية وربيبتها الصهيونية!!"

*********

بعد نصف ساعة من لحظة الانطلاق من محطةٍ ما في القاهرة اندلعت النار في أحد القطارات أثر انفجار "بابور كاز" قديم وبالٍ لكنه ما زال يُستعمل للطبخ. لم ينتبه السائق إلا بعد أربعة أميال لعدم وجود جهاز إطفاء أو إنذار في أي من العربات المحترقة، ومما ساعد على انتشــار النار الرياح التي دخلت من النوافذ المهترئة والمتساقطة الزجاج.

وصل خبر الفاجعة إلى السيد رئيس مجلس الوزراء عاطف عبيد، فطار بسيارته المارسيدس الفاخرة والتي تلمع كحد السيف (كما ورد في لوس أنجلوس تايمز) أوقفها في مرآب المستشفى واندفع إلى غرفة الانتظار حيث اجتمع بالصحفيين والمسؤولين وعلى رأسهم محافظ الجيزة السيد محمود أبو ليّة الذي جلس إلى يمينه يرشف قطرات من زجاجة دايت كوك (كما ورد في لوس أنجلوس تايمز).

"حادث كهذا يمكن أن يقع في أي بقعة من العالم!.. القطارات في مصر جيدة وعلى درجة عالية من الأهليّة. في كل عربة أكثر من باب بإمكان المسافرين أن يدخلوا ويخرجوا منه!.."

هذا ما أجاب به السيد رئيس الوزراء على أسئلة الصحفيين، وهو بذلك يلقي اللوم على الضحايا الذين لم يتمكنوا من الهرب!

تجمهر ســكان القرية التي وصل إليها القطار المشتعل حول مكان الحادث وأخذوا يتمتمون: لا إله إلا الله، إنه قضاء وقدر.. نحن ناس مؤمنون ولن يصيبنا إلا ما كتب الله علينـا!

يقول التقرير الذي نشرته الصحافة الأميركية عقب الحادث: كل عربة تتسع لمائة وخمسين راكباً ولكنها احتوت في ذلك القطار ضعف هذا العدد على الأقل!

حاول الركاب جاهدين إلقاء أنفسهم من الأبواب والشبابيك فاصطدم بعضهم بالبعض الآخر وتساقطوا أكواماً من الرماد. لم يستطع فريق الإنقاذ في معظم الأحيان فصل الجثث المحترقة عن بعضها. يقول شاهد عيان: كل راكب حاول الهرب اصطدم بجدار من الركاب. هرب الجميع معاً فاحترقوا معاً وتكوّنوا جثة هامدة واحدة في ركن واحد من كل عربة!

إلى هنا ويبدو النبأ بالنسبة للمواطن العربي عادياً للغاية، فلقد اعتدنا أن نحترق ونموت كالحشرات وسيادة رئيس الوزراء ينط بسيارته المارسيدس ومعاونه يرتشف الدايت كولا. لقد اعتدنا أن نقبل الجريمة على أنها قضاء وقدر.

لقد اعتدنا أن نُحشـر كالسردين دون مراعاة أية شروط بشرية في عربات غير مجهزة بجهاز إطفاء أو جرس إنذار. لقد اعتدنا أن نسافر بلا شبابيك، بلا مقاعد، ولا أجهزة تكييف!.. إلى هنا ويعتبر النبأ عادياً للغاية، أما ما يثير الألم فهو العبارة التي تقول فيه: تمكن المهندس من فصل العربات الأمامية الثلاثة عن القطار المشتعل وتابع سيره بها كي يصل في الوقت المناسب ويحتفل مع ذويه بمناسبة الأعياد!!

يقول مثل إنكليزي: إذا قال لك أحد بأنك حمار تجاهلْـهُ. وإذا قال لك اثنــان بأنك حمار، انظر خلفك علّك ترى آثاراً لحوافرك. أما إذا قال عنك ثلاثة بأنك حمار، اشــترِ خرجاً وعلّقه على ظهرك!

عندما يتهمنا العالم بالإرهاب لم يأتِ اتهامهم من فراغ. لا دخان بلا نــار!

كل وزير يبرر جريمة كهذه على أنها حدث قد يحصل في أية بقعة من العالم هو إرهابي محترف!

كل شعب يقتنع ويؤمن بأن جرائم حكامه هي قضاؤه وقدره، هو شعب مازوشي يتلذذ بالظلم ويعشق الإرهاب!

عندما يستطيع مهندس قطار أن يقود ما تبقى من قطاره غير آبه بأربعمائة ضحية خلّفها وراءه إنما يمثّل بتصرّفه هذا، في كل الأخلاق والأعراف، قمّـةَ الإرهاب!

سأل أحد الصحفيين السيد محافظ الجيزة: ألستَ مسـتاء من حشر هذه الأعداد الضخمة من الناس في القطار؟.. ألست مستاء من تصرف سائق القطار؟.. أجاب: ليست تلك الأمور قضيتنا.. تواجُدُنا في مكان الحادث يؤكد اهتمامَنا كمسؤولين!

ألم أقل لكم بأن اتهامهم لنا بالإرهاب لم يأتِ من فراغ؟!..

**********

عندما مات الفيل هانيبال في حديقة حيوانات لوس أنجلوس أثر حقنه بجرعة عالية من المهدئات قبيل محاولة نقله إلى مكان آخر، لطم مدير الحديقة أثناء المؤتمر الصحفي على رأسه كطفل صغير وبكى بغزارة: "أمرّ في أسوأ تجربة عشتها.. لا أتوقّع أن الأيام ستحمل لي أسوأ منها.. ولا أستطيع أن أجزم أنني سأستمرّ في مهمّتي كمدير لتلك الحديقة بعد أن فقدت أحد أصدقائي الأعزاء!

ألم أقل لكم بأن اتهامهم لنا بالإرهاب لم يأتِ من فراغ!..

********

كان الرجل المســلمُ بصورة عامة والرجل العربي بصورة خاصة منهزماً أمام انكسارته!

هل انهزامه هو الذي كســره أم أن انكسارته هي التي هزمته؟!!

والسؤال الأهم من سابقه: كيف واجه تلك الهزائم والانكسارات؟!!

التحف بِدِينــهِ. وجد به "قـبّـعةَ الخفـاء" فاستتر تحتها هارباً من مسؤولياته تجاه مجتمعه وضغوط ضميره. هرب إلى دينه كما فهمه وكما أراد أن يفســّـره!

كلما خســر موقعةً فسـّـر آيةً أو لفّق حديثاً بطريقة تبرر خسارته!

جابه ويجابه كل يوم حقائقَ جمّة ترعبه:

  • ثلثا العالم العربي صحراء والثلث الثالث مهدد بالتصحّر!.. ولكنّ أمراً أعظم يشغل تفكيره، "من هي المرأة الناشــز؟!!"
  • توصل العلماء في أحد مخابر كاليفورنيا إلى استنباط عشرة آلاف نوع من الأقماح. هذا أمرٌ لا يهمّه!.. فهناك أمرٌ يشغل تفكيره: " هل قطرة الأنف تفسد الصيام؟!!"
  • يعاني 90 بالمئة من أطفال المسلمين من سوء التغذية الذي يعتبر السبب الأول للوفاة بين هؤلاء الأطفال. يقرأ النبأ ويتســاءل: "ما حكم الدين في حمل المسبحة وتعليق الحجاب والتمائم؟!"
  • من كل عشرة نساء مسلمات تموت على الأقل امرأة واحدة بسرطان الثدي سنوياً، علماً بأن التشخيص المبكّر بوسائل التشخيص البسيطة والمتوفرة بسهولة يستطيع أن ينقذ 80 بالمئة من هؤلاء النساء. لم اسمع في حياتي أن طبيباً مسلماً تبرّع بوقته كي يقود حملة توعية بين النساء في أحد المساجد على غرار ما يحصل في الكنائس في كل مكان، ولكنني سمعت وما زلت أسمع أن هؤلاء الأطباء مختلفون فيما بينهم: "هل يجوز للمرأة أن تكشف وجهها وما هو حكم الدين في كفّيهــا؟!!"
  • مائة ألفٍ بلغ عدد ضحايا الإرهاب في الجزائر، وشيوخنا منكبّون على إصدار فتوى جديدة: "هل لبس المرأة للكعب العالي حرام؟!"
  • نشب حريق في قطار مصري مكتظ بالركاب، وأسفر الحريق عن مقتل أربعمائة شخص. ولكن أحمد نجم شاعر مصر الأول متفائل بالمستقبل: "ما دامت مصر ولاّدة.. وبها الطلقُ والعــادة!.."
  • *********

    نحن لا نقيم في أخلاقنا وزناً للإنســان ولا في أعرافنــا قيمةً لحيــاته!

    فلسفتنا: "أطلب الموتَ توهب لك الحيـاة" نظرية إرهابيـة. من يطلب الموت سيجده أقرب إليه من قرب بياض عينه إلى سوادها، ولن يستمتع بالحياة!

    قال لنا مصطفى طلاس يوماً في أحد اجتماعاته معنا يوم كنا طلاباً: "الفرق بيننا وبين إسرائيل، إذا خسرت إسرائيل أحد عناصرها تُصاب بهستيريا الهلع، أما نحن فلدينا أبطال كثيرون!"

    طبعاً لن يعترف طلاس بخسارته طالما يتبرّع من جيب غيره، فأولاد الناس رهن بنانه، يزجّ بهم في النار كي يرضي جنون عظمته بينما أولاده ينطّون من عاصمة أوروبية إلى أخرى. لا يعرفون أين تقع سوريا على خريطة الكون ناهيك عن فلسطين!!

    *********

    الرجل المسلم متفائل بالمستقبل رغم كل انهزاماته وانكساراته. حوريّته تنتظره في السـماء، ستفتح له باب مقصورتها على مصراعيه وستنقذه من دنياه الفانية دون أن تسأله عن نظافة مرحاضه ولماذا غاص في "خراه" إلى مستوى ركبتيه.. لماذا شــخّ في مياه شربه.. كم شبراً من الأرض استصلح وكم نوعاً من القمح استنبط.. كما ولن تسأله هل حمل في جعبته إليها تقريراً بعدد ضحايا الإرهاب والجوع والمرض أو ماذا فعل حيال ذلك!..

    أتساءل بألم: هل بقي أمام هذا الرجل (وأقول "الرجل" باعتباره القوّام) فرصةً كي يرفع مستوى وعيه إلى الحد الذي يستطيع به أن يواجه مسؤولياته، وينظر حوله كي ينظّف آثار أفعاله قبل أن يصمه العالم كله بعبارة "إرهابي منهزم" على ظهره؟!!

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق