أمامي إحصائية تقول: بعد أن يتخرّج المهندس الأميركي من جامعته بخمس سنوات، تصبح نصف معلوماته غير صالحة للاستعمال، وعليه كي يبقى مؤهلاً للعمل، أن يملأ الفجوة التي أحدثها التطوّر السريع في حقل العلوم. يترتّب على العملية نفسها إحداث تغيير جذري في أساليب التعليم المتّبعة اعتباراً من الصفوف التي تسبق الالتحاق بالمدرسة الابتدائية.
كانت فرح على أبواب عامها الدراسي الأول، عندما قررت أن أعلّمها اللغة العربية كتابة وقراءةً أسوةً بأخيها.
اتصلت بأختي بالوطن الأم، أتوسّل إليها أن ترسل لي كتب القراءة للصف الأول الابتدائي. وبعد أقل من أسبوعين رقصت الكتب في علبة بريدي، فرقصت فرحةً بها!
لم تدم فرحتي طويلاً.. ويا لدهشتي! إنها نفس الكتب التي تعلّمت بها أبجدية الحرف بشحمها ولحمها!
(باسم يقرأ الجريدة.. رباب تغسل الصحون.. ركب خالي حصان نوري).
خمسة وثلاثون عاماً وما زال باسم يقرأ الجريدة، ولم يصل إلى نتيجة!.. (استقبل سيادته.. ودّع جلالته.. تدارس سيادته مع جلالته الأمور التي تخص البلدين..) خمسة وثلاثون عاماً، ولم يعرف باسم ما هي الأمور التي تخص البلدين!
خمسة وثلاثون عاماً غيّرت ماري كوري باكتشافها اليورانيوم تاريخ العالم بكامله. حلّقت فالنتينا كريتشكوفا حول الأرض بمفردها.. استلمت جانيت رينو منصب المحامي العام لأكبر دولة في العالم، وما زالت رباب تغسل الصحون وتحافظ على هدوء البيت، كي يتسنّى لباسم أن يقرأ الجريدة علّه يصل إلى نتيجة!
خمسة وثلاثون عاماً طحنتنا الحروب الأهلية.. اجتاحتنا المجاعات.. تصحّر الجوّ والبرّ والبحر.. مات آخر حصان عربي منذ أكثر من خمسمائة عام. ومازلنا متوهّمين أنّ نوري يملك حصاناً، ومازلنا متوهمين أن شهامته العربية تسمح لخالي أن يمتطي صهوة حصانه!
علّمونا منذ نعومة أظفارنا أن يكون الواحد منا مع أخيه ضد ابن عمّه، ومع ابن عمّه ضد الغريب!.. لم يكن الغريب في قواميسنا ذلك المخلوق الذي يجتاحنا من كوكب آخر أو من قارة أخرى. بل كان الغريب من يسكن البيت المجاور، أو الحي المجاور، أو القرية المجاورة، أو المدينة المجاورة في الوطن الواحد!..
أوهمونا بأن الوطن الكبير، يمتدّ من المحيط إلى الخليج.. كبرنا مع الوهم لنفاجَـأَ بأن وطن كل واحد منا ينتهي، في أفضل الأحوال، عند حدود قريته!.. تفاقم الحقد حتى صار الإنسان مع ابنه ضد أخيه، ثم مع جشعه ضدّ ابنه. ثم تحوّل إلى حالة ميؤوسٍ منها، تكره ذاتها!
كذبــوا عليّ يا فرح، لكنني لن أدعهم يمرّرون كذبهم عليك بسلام.. سأحرق تلك الكتب.. سأعيد صياغة التاريخ، وسأكتب على الصفحة الأولى في كتاب القراءة للصف الأول الابتدائي الحقيقة المرّة التالية:
(بقر خالي بطن نوري.. نتفت زوجة نوري شوارب خالي.. عضّ نوري زوجة خالي.. سرقت زوجة خالي دجاجة نوري..) !!
أيها الأطفال العرب.. اعرفوا حقيقة آبائكم، علّكم تدركوا سرّ الهزيمة كي تستطيعوا أن تخرجوا منها!..
مهما بدت الكذبة فضيلة وهي ترتدي ثوباً محتشماً..
تأكدي يا بنيّتي أن الحقيقة العارية أشرف منها بكثير!
د. وفاء سلطان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق