الثلاثاء، 1 يونيو 2010

أعزائي القرّاء: لماذا كتبت عن حزب الإصلاح!

د. وفاء سلطان، 22 مايو 2005

نزار قباني شاعر غنيّ عن التعريف.

مات ابنه توفيق إثر مرض قلبيّ عضال، وكان يومها طالبا في كليّة الطبّ.

رثاه الشاعر الكبير بقصيدة جميلة وبمقالات أجمل.

كتب يومها يقول ـ بما معناه ـ : زرت توفيق وهو مسجّى على فراش الموت وسألته: كيف قلبك؟

لم يتمكن من أن ينبث ببنت شفة، لكنه أخذ قلما ورسم قلبا ثم لوّنه بالأحمر!

تفاءلت خيرا، لكن توفيق فارق الحياة بعد زمن قصير جدا من رسمه لهذا القلب!

كلّ منّا فهم الآخر بطريقته! هو رسم القلب بالأحمر، اللون الذي يرمز إلى النزيف والموت في لغة الأطباء. أما أنا فتفاءلت به لأنه يرمز إلى الثورة والحياة في لغة الشعر!

******

كتبت مقالتي الأخيرة أعطي فيها رأيي بحزب الإصلاح السوري ورئيسه السيّد فريد الغادري؛ كتبتها بلغتي وقرأها، هذه المرّة أصدقائي، بلغتهم!

استطعت أن أفهم قصدهم، لكنّهم لم يستطيعوا أن يفهموا قصدي!

لذلك أحسست بأنني ملزمة، أمامهم وأمام ضميري، أن أوضّح أوجه الخلاف بين اللغتين، كما أوضحها شاعرنا الكبير نزار، كي تبقى العلاقة بيننا علاقة أصدقاء وكي لايخطئ أحد فينا فهم الآخر!

استطعت أن أفهم قصدهم، لكنّهم لم يستطيعوا أن يفهموا قصدي. لا لأنني أذكى منهم، بل لأنني ركبت في قاربهم يوما وأركب الآن في قاربي الذي يرسو على الضفة الأخرى للنهر!

لقد استطعت أن أرى الصورة من كلا الضفتين فجاءت رؤيتي أوضح وأشمل!

سبعة عشر عاما مضت على وجودي في هذا البلد! لقد غيّرتني تلك السنوات لكنها لم تستطع أن تغيّرهم!

لقد لاحظت، ومن خلال الزيارتين اللتين قمت بهما للوطن مؤخرا، لاحظت عمق الهوّة التي باتت تفصلني، ليس عن الناس الذين أختلف معهم في وطني، بل عن أقرب المقرّبين مني فكريا وسلوكيّا!

ليسوا هم المسؤولين عن تلك الهوّة، بل أنا المسؤولة!

لذلك من واجبي، وليس من واجبهم، أن أبني جسرا فوق تلك الهوّة. لاكي أعبره اليهم، بل كي يعبروه إليّ. لقناعتي المطلقة أنني بمأمن حيث أقف وهم بخطر حيث يقفون!

كيف سأقنعهم: اعبروا ومدّوا يدكم كي تمسك بيدي؟!

******

أربعة قرون حالكة السواد مرّت على الإنسان في سوريّا، فسلبته محاسن نفسه على حدّ تعبير المفكّر العظيم عليّ بن أبي طالب: إذا أدبرت الدنيا عن امرئ سلبته محاسن نفسه!

صار هذا الإنسان يخاف من صورته عندما ينظر إلى نفسه في المرآة!

فقد ثقته بأقرب المقرّبين اليه، وصار يشكّ بخياله!

خذلته الأيام فحقد على الزمن!

مرمغت السياسة سمعته بالتراب، فدنّس التراب كما دنسها!

نساه الله فكفر به!

باختصار: فقد الثقة بكلّ شيْ! فقد الثقة بقدرته على الهرب من المصيدة التي وقع فيها!

آثر، للتخفيف من حدّة الأمر، أن يتكيّف مع تلك المصيدة خوفا من أن تحمل له الأيام أسوء منها.

السياسة، في لغته التي تبناها خلال أربعة قرون، عمل قذر! والسياسيّ في قاموسه رجل كذّاب!

الماضي، لديه، كان أفضل من الحاضر. والحاضر، في قناعاته، سيكون أفضل من المستقبل. ولذلك تراه يحنّ إلى الماضي ويصرّ على استمراريّة الحاضر!

الظرف الصعب هو الذي أنجبه، ولذلك لايحق لي أن أحاسبه، بل أشعر بعبء مسؤوليتي كي أساعده!

انتشاله من المصيدة التي وقع بها عمليّة محفوفة بالمخاطر. تشكّل خطرا عليّ أكثر ممّا تشكّل خطرا عليه!

هو لايملك شيئا كي يخسره، لكنني أملك مصداقيتي العلميّة وخبرتي اللتين أخاف عليها أكثر ممّا يخاف على مصيدته!

تشير الإحصائيّات على أن 60% من الأطباء النفسانيين الذين يعالجون المرضى المصابين بالكآبة يصابون، هم أنفسهم، بالكآبة!

لذلك وخلال عمليّة الإنتشال هذه، أخاف من أقع في مصيدتهم، كما يخافون، هم أنفسهم، من أن يخرجوا منها!

لكنني، وبسبب تواجدي في موقع أقوى من مواقعهم، أجد نفسي ملزمة أن أمدّ يدي حتى ولو رفضوا أن يمدوا يدهم!

******

عندما نشرت مقالتي الأخيرة عن حزب الإصلاح السوري في أمريكا انهالت عليّ الرسائل من كلّ حدب وصوب.

أثار اهتمامي منها، هذه المرّة، ماكتبه بعض الأصدقاء من عتاب.

كثيرة هي القضايا التي طرحوها، لكنّها جميعها تصبّ في خانة واحدة.

خانة: "الخوف من التغيير"!

ماقدمته السياسة للمواطن السوري خلال الأربعة القرون الأخيرة أجبرته على أن يتبنى أعتقادا راسخا بأن السياسة عمل قذر!

والسنوات التي عشتها في أمريكا ولّدت لديّ اعتقادا راسخا بأنّ السياسة علم وفنّ وحاجة حياتيّة لابد من أخذها بمحمل الجدّ!

عندما تطرقت للخوض فيها، وللمرّة الأولى ككاتبة، ثارت حفيظة أصدقائي من القراء خوفا عليّ فكتبوا محتجّين!

هم يخافون على نظافة قلمي، وأنا أخاف عليهم من أن يبقوا حيث هم.

هم ناتج واقعهم وأنا ناتج واقع مغاير، ولذلك من الطبيعي أن يتكلّم كل منّا بلغة مغايرة!

لكن من غير الطبيعي أن لايسعى كلّ منّا إلى تبسيط لغته!

******

خلاصة القول: الشعب السوري بحاجة إلى اعادة تأهيل فكري ونفسي، فهو محطّم فكريّا ونفسيّا، وقد تفوق درجة التخريب في بنيته الفكريّة والنفسيّة قدرة أيّ معالج نفسي أو مفكّر على إعادة التأهيل والبناء.

لكنني لن أيأس!

من أقسى المصاعب التي يواجهها المختصّ الذي يقوم بعملية الترميم هذه هي إعادة ثقة هذا المواطن في أيّ شيء فقد الثقة به!

هو لايثق بالسياسة بل يعتبرها عمل قذر! فلقد مرمغ سياسيوه سمعته وكرامته بالوحل على مدى قرابة نصف قرن، ومن حقّه أن يسحب ثقته منهم!

هو يرفض أن يتعامل مع السياسة قرفا منها، ويريدني المخلصون من قرائي أن لاأتعامل معها أيضا!

نحن الآن في سوريّا على مرمى حجر من زلال سياسي!

التغيير السياسي صار قدرا محتوما لامردّ له!

إذا رفض المواطن السوريّ أن يتعامل مع هذا الزلزال بعلم وفنّ، ذلك الرفض الذي قد يكرّسه فقدان الثقة بالسياسة والسياسين، إذا رفض، ستكون حكما عواقب هذا الرفض وخيمة!

من واجبي، وأنا أقف بقاربي على الضفة الأكثر أمانا للنهر، أن أهيب بهم جميعا على أن يتعاملوا مع الواقع بواقعية!

دعونا نتعاون مع هذا الزلزال كي يزلزل الأرض تحت التركيبة السياسة الفاسدة التي تحكّمت بنا، وإلاّ زلزلنا معها!

******

هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان السبب الآخر لاستياء بعض المخلصين من قرائي على تدخلي بالسياسة هو كوني أشدت بأحد أحزاب المعارضة!

طيلة الفترة التاريخيّة التي تسلّط بها الأسد وزبانيته على رقاب الشعب السوري لم يظهر على الساحة السياسيّة كقوّة معارضة، إذا استثنينا الشيوعيين كطواحين ماطحنت يوما سوى الهراء، سوى حزب الأخوان المسلمين.

لقد توصل المواطن السوري إلى قناعة أن البديل الوحيد للنظام الديكتاتوري في سوريّا هم الإخوان.

الإخوان المسلمون كما يدّل تاريخهم وكما تدل كتبهم وتعاليمهم لايعرفون إلاّ القتل وسفك الدماء وسبي النساء.

قاموا على السلطة كي يطيحوا بها، فساهموا من حيث يدرون أو لايدرون بدعمها.

جرائمهم التي ارتكبوها من منطق طائفي قذر، ولّدت لدى المواطن السوري، وخصوصا ذلك الذي ينتمي إلى الأقليّات في سوريّا، قناعة مطلقة بأن الأسد، على علاّته، أفضل وأشرف منهم.

تمسّك هذا المواطن بدعم الأسد لا حبّا بعلي بل كرها بمعاوية!

وجدوا المواطن نفسه، غصبا عنه، يدافع عن وجود الأسد من باب الدفاع عن وجوده!

كتب لي قارئ مسيحي يسألني: نحن نثق بك ياوفاء ولذلك نسألك: لماذا تقولين بأنّ السيّد الغادري مسلم سني علماني؟

هل أنت متأكدة أنه يوجد مسلم سنيّ علماني؟!

جرائم الإخوان المسلمين أوصلت القارئ إلى تلك القناعة. ومهمّتي الآن تنطوي على تغيير تلك القناعة!

عندما كتبت عن حزب الإصلاح السوري طرحته كبديل ثالث، لكنني لم أطرحه على أنه البديل الوحيد!

******

إحدى القناعات الأخرى التي تولّدت لدى المواطن السوريّ، من خلال تاريخ مفعم بالظلم والقمع، هي أنه عندما يقترب الكاتب من أيّ سياسي يسقط على الفور في جيبه ويبقى هناك حتّى يموت معه!

في قناعة هذا المواطن، تلك القناعة التي أفرزها واقع مرّ، السياسي هو الذي يصنع الكاتب.

وفي قناعتي التي تشكّلت من خلال حياتي في مجتمع ديمقراطي أن الكاتب هو الذي يصنع السياسيّ!

لذلك خاف قرائي عليّ، لكنني لم أخف على نفسي!

سألني أحدهم: لماذا سمحت لنفسك أن تمدحي السيّد الغادري؟

أنا لم أمدح الغادري، لكنني وصفته كما رأيته. هناك فرق كبير بين أن تمدح وبين أن تصف. وأريد أن أطمئن كلّ قرائي المخلصين عندما يسيء الغادري إلى الصورة التي رأيته فيها لن أكون معه أسهل ممّا كنت مع الشيخ محمّد ولسانه الداشر، ولن أتورع، دون خجل أو وجل، أن أسحب منه ثقتي به، عندما يخون تلك الثقة!

في بلادنا عندما يمدح الكاتب سياسيّا يسقط كالذبابة في صحنه!

حتّى عندما ينضب هذا الصحن ويشحّ مافيه يستمر الكاتب في تضليله لقارئه كي، وظنا منه، لايفقد مصداقيته التي في الأصل لا يملكها!

في البلاد الديمقراطيّة، كتلك التي أعيش بها، قد يقتنع الكاتب ببرنامج عمل طرحه سياسيّ ما، فيلجأ إلى دعمه ليكتشف لاحقا أنه ليس أهلا لذلك الدعم. عندها لايتورّع هذا الكاتب من أن يسحب ثقته دون خوف على مصداقيته ودون خوف من أن يتهّم بالتخوين أو التضليل.

الفكرة في البلاد الديمقراطيّة وليدة الظرف، ولذلك من الضروري أن تتغيير كلّما تغيّر هذا الظرف!

إذا كتبت اليوم عن السيّد الغادري بأنه أهلٌ ليكون قائدا، واكتشفت غدا بأنّه لم يكن كما تصورته سأغيّر رأي فورا كي لاأضلل قارئي. ولن أخجل من تغيير موقفي، لأنني اؤمن بأن مايعجبك اليوم قد يضحكك غدا!

الأزمة ليست في تغيير المواقف، بل الأزمة عندما نصرّ على موقف ونحن نؤمن بضرورة تغييره.

******

أمّا بخصوص سؤال القارئ: هل أنت متأكدة بأنّ هناك مسلم سني علماني؟

وجوابي: نعم وألف نعم! والسيّد الغادري واحد منهم!

عندما دخل السيّد الغادري بيتي كان يعرف تماما من هي وفاء سلطان.

عرفني قبل أن أعرفه، ولو لم يكن علمانيّا لما عرف الدرب إلى بيتي!

هل أحد فيكم يستطيع أن يتصوّر بأن الشيخ محمّد زارني وبأنني رحبت به في بيتي؟!!

عندما نشرت المقالة اتصل بي السيّد الغادري وقال بالحرف الواحد: لم أحس يوما بعبء المسؤوليّة الملقاة على عاتقي كما أحسست بها عندما قرأت ماكتبتيه عني وعن حزب الإصلاح. لقد وضعتيني أمام مسؤولياتي، وسأعمل كلّ جهدي كي أكون أهلا لتلك المسؤوليّات.

في البلاد الديمقراطيّة الثناء يزيد من مسؤولية الحاكم، بينما في بلادنا ينطبق على هذا الحاكم المثل الشعبي القائل: انفشوا وشوف ما اجحشو!

في بلادنا لايقال في حقّ الحاكم إلاّ ماكان من باب المديح، والمديح يزيده غطرسة وبالتالي استخفافا وتهربا من مسؤولياته!

الكاتب في البلاد القمعيّة يخاف من الحاكم، أما في البلاد الديمقراطيّة فالحاكم هو الذي يخاف من الكاتب. والكلّ يعرف الدور التي تلعبه الصحافة، في تلك البلاد، في صناعة القرار.

******

البعض الآخر من القراء احتجّ على أنني أهنت العلويين واعتبرتهم من خلال تجربة حافظ الأسد الغاشمة غير جديرين بالثقة.

وردّي: تجاهل الواقع لايلغيه!

في اللحظة التي سبقت لحظة استيلاء الأسد على السلطة كانت الطائفة السنيّة مدينة للعلوييّن بتاريخ طويل من الظلم والقمع والقهر والاستبداد. وفي اللحظة التي تلتها بدأت جرائم الأسد وعصابته من العلويّين وغيرهم من الطوائف الأخرى تسقط في السجل العدلي للطائفة العلويّة واحدة تلو الأخرى.

رجحت الكفّة وبدت، مع التقادم، استحقاقات السنّة في ذمّة العلوييين أعلى بكثير!

تلك هي أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا التي لاتغفر للجماعة أخطاء الفرد، وتحاسب زيد لأنه من قبيلة زياد!

الأمر يحتاج إلى اعادة توازن طائفي، لا لأنني اؤمن بالحسابات الطائفيّة بل لقناعتي المطلقة بأنه واقع نعيشه وليس سهلا أن نتجاوزه، على الأقل، في المدى المنظور!

إعادة التوازن الطائفي، ولكي تتمّ بسلام ودون اراقة دماء، تتطلب نظام حكم علماني محسوب على السنّة.

نظام حكم علماني يتعامل مع المشكلة بعلم ومنطق وأخلاق.

تحت راية هذا النظام سيحاسب كلّ من اساء إلى الوطن بدءا برفعت الأسد وانتهاء بالشهابي ودوبا وطلاس!

لن تشفع لأحد طائفته ولن يحميه شيخ قبيلته!

هذا ماأكّده السيّد الغادري لأبناء الجالية السوريّة عندما التقى بهم في بيتي، وهذا مااؤكده لقرائي حتى تثبت الأيام عكسه!

الأقليات يساندهم السنيون العلمانيون معنيّيون جدا بالأمر. يجب أن يفعلوا مابجهدهم كي لاتحدث المرحلة المقبلة فراغا سياسيا يشدّ اليه اصوليين متهوريين لايعرفون سوى السيف وسيلة حوار.

نحن معنيّون بالبحث عن بديل ثالث، بديل يؤمن بمجتمع ديمقراطيّ، تعلو فيه سلطة القانون فوق الجميع ويكون الانسان فيه محميا ومحترما بغضّ النظر عن دينه وانتمائه الطائفي أو القبلي أو العشائري.

حزب الإصلاح السوري بقيادة السيّد الغادري هو البديل الثالث لكنّه ليس البديل الوحيد.

على الساحة تطفو الكثير من الأحزاب العلمانيّة المعارضة، والتعاون بينها بات ضرورة ملحّة مهما اختلفت برامج أعمالها.

التعاون بينها سيبلور المرحلة السياسة المقبلة في سوريّا.

كان حزب الاصلاح الحزب الوحيد الذي عرفت برنامج عمله عن كثب، ولذلك يحق لي أن أعطي به رأي، أيا كان هذا الرأي.

لاأستطيع أن ألزم أحدا برايي، لكن المنطق يفرض على كلّ منّا أن يحترم رأي الآخر.

خلال الحرب الأهليّة التي درات رحاها في أمريكا بين الشمال والجنوب، قال أحد الوزراء في حكومة الرئيس ابراهام لينكولن له: سيّادة الرئيس سأصلي من أجل أن يقف الله مع الشمال.

فرد لينكولن: وأنا سأصلي من أن أجل أن تقف تلك الأمّة مع الله.

يبدو أن كلّ طائفة في وطني تصلي من أجل أن يقف الله معها.

وأشعر كأنني الوحيدة التي تصلي من أجل أن تقف كلّ الطوائف في بلدي مع الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق