الثلاثاء، 1 يونيو 2010

يُطالبون بالديموقراطية!!

د.وفاء سلطان

عندما يطالبون بالديموقراطية، إنما يصبّون مرقاً شهياً مُبهّراً على طبقٍ من اللحم الفاسد!..

الديموقراطية مرحلة تطورية عُليا، يجب أن تسبقها المرحلة الأهم: إعادة تأهيل المجتمع فكرياً وأخلاقياً وسلوكياً.

يا معشر العلماء والمفكرين: نظفوا لهم حظائرهم التربوية قبل أن تُفسِـدَ روائحهم جَمالَ المكان وقدسيّة القضية!..

***********

لم يكن قد مضى على وجودي في هذا البلد أكثر من بضعة أيام عندما تعرفت على سيدة عربية، شاءت الأقدار أن تجاور شقتي شقتها في البناية السكنية. أبدت على الفور رغبتها في اصطحابي إلى المحلات التجارية باعتبارها خبيرة في الحياة الأمريكية بعد أن مضى على وجودها هنا عدة سنوات. كان السوبر ماركت أول مكان أزوره برفقتها، وهناك حدثت المفاجأة الكبرى!..

لم تترك كيساً أو علبة أو سلعةً امتدّت إليها يدها إلا وأحدثت فيها ثقباً، لتعيدها بعد ذلك إلى مكانها. سألتها باستغراب، "لماذا تفعلين ذلك يا دينا؟.." فأجابتني، "وهل أخذتك الشفقة عليهم؟.."

"لا.." قلت لهــا، "كل ما هنالك أنني أحاول معرفة سرّ هذا السلوك الغريب!.."

وجاء جوابها سريعاً جاهزاً: "يلعن أبوهم سرقوا أراضينا!.."

"وهل تناضلين الآن وفي هذه الطريقة لاسترجاع أراضيك؟.."

قهقهتْ بطريقة هستيرية خالية من الأدب، ودفعتْ عربة التسـوّق أمامها وتابعت تقول: "ألا تدرين أن المالك يهودي، أم لعلّك تحملين في عروقك دماء صهيونية تدفعك للتعاطف معه؟..

لا.. بل أحمل دماءً إنسانية، لا تميّز بين مالكٍ وآخر، ولكنّها تميّز بين النضال والتخريب!

************

كنت مرة أتسوّق في محلات Home Depot عندما تناهى إلى مسمعي صوت سيدة كانت تقف أمامي بجوار ولديها. قالت لأحدهما بالعربية: ضعها في جيبك.. ضعها في جيبك.. لا أحد يراك!

تمالكتُ نفسي وتظاهرتُ بأنني لم أفهم ما قالته، نظرتُ بطرف عيني لأرى ابنها الأكبر والذي لا يتجاوز الخامسة عشرة، يمسك حنفية ماء صغيرة بيده. ازدادت دهشتي عندما قال الولد: "لا.. لا.. حرام.."، فردّت بهمسٍ وعصبية: "لعنهم الله، في أموالهم حقٌّ معلومٌ للسائلِ والمحروم.." تجاوزتُ السـيّدةَ مســرعةً دون أن أنظر إلى الوراء!..

************

تربطني بزوجة عجاج علاقة شفقة واعتبار.. انحدرت مرة دموعهــا بغزارة على خدّيها: "لم أعد أطيق الحياة. خمس سنوات مرت على وجودي في هذا البلد، لا أتكلم الإنكليزية ولا أقود سيارة. حاصَرَني بين أربعة جدران، ولا يقيم لي أي اعتبار. ينهال عليّ أمام أطفالي بالضرب والشتيمة. تكفي كلمة واحدة تتفوّه بها أمه ليحيلَ نهاري ليلاً. تمضي أيامٌ دون أن أجد في ثلاجتي شيئاً. أتضوّر وأطفالي جوعاً وضجراً. ضُبطتُ عدة مرات في عمليات سرقة داخل المحلات التجارية. سجلّي في دائرة الشرطة صار معيباً.. إنه مجرم.. لقد دمّرني!.."

"لكنّكِ تشـاركينه إجرامه. طالما تسرقين فأنت مجرمة!.."

نظرت إليّ معاتبة: قرأتُ لك يا وفاء عبارة رائعة تقول: يسلب الظلمُ الناسَ أخلاقهم. لقد ظلمني فسلبني أخلاقي.

"هذا ليس صحيحاً"، قلت لها. "يسلب الظلم الناسَ أخلاقهم عندما لا يجدون طريقة يردون بها ظلمهم.. عندما يعيشون في بلاد سلطاتها تظلم.. قوانينهـا.. مفاهيمهــا.. وعاداتها وتقاليدهــا!.. وبعبارة أخرى، عندما يعيشون في بلاد يصبح الظلم فيها وسيلة عيش وطريقة حياة!.. أما عندما تعيش امرأة في مجتمع يقيّـم حضارته من خلال وضعها فيه، تسقط تلك المرأة عندما تقبلً ظلماً!.."

هربت زوجة عجاج مع طفليها رافضة الظلم حتى ولو في النعيم الأمريكي، بينما ظل عجاج بيننا، ينطّ من محفل إلى محفل ببذلته الأنيقة وربطة عنقه الملوّنة، يناضل.. يحاضر في الأخلاق.. ويطالب بالديموقراطية!!..

***********

هل عجاج ودينا وسارقة الحنفية، مُهيَّـأون تربوياً وأخلاقياً وعقلياً، كي يمارسوا حريتهم وديموقراطيتهم؟..

عندما نطرح الديموقراطية كحلٍّ لقضايانا العربية والمصيرية، وكوسيلة للخروج من النفق المظلم الذي حشــرنا فيه حكامنا وأعداؤنا في محاولة لقطع أنفاسنا وخنق أصواتنا، يجب أن ندرك أن هذا الطرح ما هو إلا مرحلة لاحقة لمرحلةٍ يحب أن تسبقها، يتم فيها إعادة بنائنا التربوي وتحضيرنا عقلياً وأخلاقياً كي نمارس حريتنا وديموقراطيتنا. فالحرية لا تعني الإباحية، والديموقراطية لا تعني الفوضى وخلط المفاهيم وتجاوز الحدود دون وازع أو رادع.

يقول علم السلوك: عندما تواجه الإنســان خياراتٌ متعددة، تزداد مسؤولياته. ويثبت العلم ذلك: إن القدرة على تحمل المسؤوليات هي حصيلة لعملية تربوية تبدأ منذ اللحظات الأولى وتستمر باستمرار الحياة.

مأساتنا الكبرى في عالمنا الاغترابي هي في أننا وُضعنا فجأة ولأول مرة في حياتنا أمام مسؤولياتنا في ممارسة حريتنا. لم تفصل بين حقبتين غير متوازيتين من عمرنا الزمني، سوى عشرين ساعة طيران، نقلتنا بلمح البصر من بلاد، ما زالت فيها العصا والشنب والجزمة العسكرية أسياد الموقف، إلى بلدٍ يحكمه القانون والعلم والأخلاق. ولذلك، لم نكن، كضحايا لتربية قمعية متخلّفة، قادرين على مواجهة مسؤولياتنا في عالمنا الجديد.

***********

دخلتْ امرأة أخرى محلاً تجارياً يغص بالخيرات. لم يستطع عقلها الجائع أن يدرك سرّ الغزارة في العطاء، فامتدّت يدها تخرّب وتعبث باسم النضال!

دخلت امرأة أخرى محلاً تجارياً آخر، تعرّضت لنفس الأزمة التي تعرّضت لها دينــا، فامتدّت يدها لتسرق باسم الزكاة والصدقات!!

أما عجاج فقفل على شــاته الباب، وخرج مهرولاً يناضل، يطالب بالديموقراطية، ويحاضر في الأخلاق!

قرأتُ مرة في صحيفة عربية مهجرية مقالاً عن وضع المرأة في الضفة الغربية، ورد فيه نقلاً عن صحيفة صادرة هناك، أن أربعين امرأة فلسطينية سقطت في الآونة الأخيرة دفاعاً عن الشرف!!

لنفترض جدلاً أننا طالبنا بالتصويت على مشروع قانون يقضي بمحاكمة القاتل كمجرم، وطلبنا من عجاج أن يدلي بصوته، أو لنفترض جدلاً أننا سهّلنا على عجاج المهمة، فطرحنا عليه سؤالاً: لقد قُتلت النساء اللواتي لوّثن الشرف، فماذا يجب أن يكون برأيك مصير الأربعين "حرامي" الذين ساهموا في تلويث الشرف؟..

هل تتصورون أن أخلاقية عجاج ومستواه الفكري والتربوي يهيئانه كي يدلي بصوته أو كي يحسنَ الجواب؟..

***********

يقـــول البروفسـور الأمريكي روبرت داهل معرّفــاً الديموقراطيــة في كتــابه "الديموقراطيــة ونقّـادهــا" Democracy and its Critics أنها، "حكم النــاس، كل النــاس، باســتثناء من تثبت بلاهته العقلية!"

لذلك، لا يحق لي أن اسقط عن عجاج ودينا وسارقة الحنفية حقهم في ممارسة ديموقراطيتهم، ولكن من حقي أن أطالبكم، معشر العلماء والمفكرين، قبل أن تثقوا بديموقراطيتهم، أن تتأكدوا من سلامة جاهزيتهم العقلية، وأن تنظفوا لهم حظائرهم التربوية، قبل أن تفسد علينا روائحهم جمال المكان وقدسيّة القضية!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق