الثلاثاء، 1 يونيو 2010

الطيور المهاجرة

د. وفاء سلطان

حمل مازن حقائبه ورحل. بكيتُ كثيراً عندما ودّعته. قال يمازحني:

هل أنت مجنونة يا أماه!! سأعيش على بعد عدة أميال منك، وأعدك كلما طبختِ ورق العنب أن تجديني واقفاً على عتبة دارك.

- آه يا حبيبي! ليتني أستطيع أن أحتكر كل أوراق الكرمة في العالم!.. الـ "ميـل" في قاموس الأمهات بُعدُ دهرٍ يا مازن. كنت ألتقط أنفاسك من غرفتي المجاورة فأعرف إن كنتَ مريضاً أو معافى.. أو على عَجَل!

- وستظلين قادرة على التقاط أنفاسي يا أماه، فأحاسيس الأمومة تختصر المسافات!

*********

مازن، أول فرخٍ من فراخي يحلّق بعيداً عني. إنها لتجربة قاسية لا أعرف كيف سأخرج منها! يحترق قلبي كلما تذكرت عبارة جدتي، "متى غادر الولد بيت والديه، لن يعود إليه إلا ضيفاً"..

حزينة أنا هذا المساء. قلمي مُضرِبٌ عن العطاء. البيت هادئ ونظيف إلى درجة تثير الملل. سكتت طقطقات أزرار الكمبيوتر. خلت زوايا البيت من الجوارب والقمصان المرمية هنا وهناك. لا صوت يتناهى من غرفته، "ماما، أنا جوعان.. ماما، هل حضّرتِ لي المراجع اللازمة لمشروع الكيمياء.. ماما، هل تعتقدين أن البنطلون البني يتناسب مع القميص الأزرق؟.. ماما، أريد مساعدتك فدرس التاريخ هذا المساء عن الشرق الأوسط وهناك أسئلة تنتظر الجواب.. ماما، اطبخي لي.. ماما، حضّري لي.. ماما، إني أحبك.."

تقترب نجلاء مني في محاولة لانتشالي من حزني وصمتي.. "أنا وفرح ما زلنا هنا يا أماه.. ألا تحبيننا؟!!

- كيف لا يا صغيرتي؟.. ولكن لكل واحد منكم مكاناً لا يستطيع أن يملأه الآخر!

*********

أما زوجي، وكعادة الرجال، يكابرون بأن المواقف العاطفية لا تثيرُهم ولا تستطيعُ أن تهزّ مشـاعرهم، ظلّ محتفظاً بثباته حتى فجر اليوم التالي.. جلستُ باكراً كعادتي إلى طاولة مكتبي، أقلّب صفحات كتاب كان علي أن أنهي قراءته منذ عدة أيام. سمعتُ وقع خطاه ورائي. اقترب مني وعلامات حزن دفين تطفو على ملامحه. وضع يده على كتفي: "أرجوك، اطبخي لنا ورق العنب واتصلي بمازن. ثم أدار ظهره وعاد إلى فراشه يخفي بيديه دموعه التي سبقتها دموعي وابتهالاتي: يا ربي، احمِ هذه المدينة بمن فيها.. يا ربي، احمِ كل الطيور التي هاجرت أعشاشها لتوّها وحطّت في رحاب جامعتها.. يا رب، احمِ طائراً يحق لي كأمّ أن أعتبره الأجمل.. طائراً وسيماً جداً ووديعاً جداً جداً اسمه مازن.

*******************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق