الثلاثاء، 1 يونيو 2010

هذا هو إيماني

قد تلدغ الذبابة جواداً لكنها تبقى ذبابة ويظل الجواد أصيلاً.

أنا لا أحتاج إلى شهادة حسن سلوك من منافق، ولا أسأل جاهلاً أن يبصم بحافره على بطاقة ائتماني الديني. أنا سيدة فاضلة، يشهد على ذلك قلمي الذي هو صيحة الضمير في داخلي، تشهد على ذلك سعادة أسرتي الصغيرة وحسن علاقتي بزوجي وبكل صديق عرفني عن كثب.

عشت وترعرعتُ في بيت كريم يحترم المرأة ويقدس حقوقها. لم يميّز بيني وبين أخي. زرع فيّ الفضيلة وعلّمني مكارم الأخلاق. ما كان أبي رجل سوءٍ وما كانت أمي بغيّــا. أدّيت واجباتي بنفس العظمة التي نلت فيها حقوقي. تزوّجت وكان زوجي ولم يزل امتداداً للرجل العظيم في أبي. احترم وجودي، تعامل مع الإنسان في داخلي. لم أسمعه يوماً يقول أنا. بل اعتدتُ على قوله نحن.

وفاء سلطان لم تصرخ يوماً "وامعتصماه"، بل المرأة العربية المقهورة، المذلولة، المهانة حتى العظم، كانت ولم تزل تثور في عروقي، تضجّ في أعماقي، تقاتل بقلمي، وتصرخ بصوتي، "وإذا الموءودة سُئِلت بأي ذنبٍ قُتِلَت"!

في مخابر الطب درست الخليّة البشرية أكبر بألف مرة من حقيقتها، فنجلّت لي عظمة الخالق سبحانه وأدركتُ سرَّ خلقه: "وفي أنفسكم أفلا تُبصرون"!.. لم يكن التطوّر الجنيني للجهاز العصبي عند الأنثى يختلف مثقال ذرّة عن التطوّر الجنيني للجهاز العصبي عند الذكر. من هنا أدركتُ أن الإنســان جسداً وعقلاً، امرأة كان أم رجلاً، وحدةً لا تتجزأ، وعندما نسيء إلى سرّ الخالق في خلقه، يموت فينا الإنسان.

كان الطبُّ محراباً لإيماني. كان جوازَ ســفري إلى مجتمعي. في أحد الأحياء الشعبية مارست مهنتي لأول مرّة، وبحكم كوني طبيبة دخلت كل بيت قبل أن تدخله الشمس، لمست بكلّ حواسي رائحة العفونة التي تغزو الجثث الملقاة في كل زاوية. خلف كل باب موصدٍ نتن ضحيَة، وفي كل بيت مغلقٍ تحتضر مسبيّة. كان الحيّ بكامله مزرعة جرثوميّة. لم تُثِر المرأةُ شفقتي أكثر مما أثارها الرجل. أنا دائماً أتعاطفُ مع القاتلِ بنفس المقدار الذي أتعاطف فيه مع الضحيّة، إذ أنني أرى في كل ظالمٍ مظلوماً يفجّر حقده في ضحيّته. الطفل في البيت الذي دخلته طبيبةً كان ضحيّة. والرجل ضحيّة. والعائلة بكاملها ضحيّة الضحيّة، والمجتمع بالنتيجة تحصيل حاصلٍ لوضع المرأةٍ ضحيّةً ومســبيّة!

كانت إسرائيل المخدّر الذي حقنونا فيه. لم ندرك أنّ عدوّنا يتغلغل في نفوسنا، يقصّ أصابعنا ويسبي نســاءنا، ويتاجر بديننا، ويغلّف جهله بتعاليم رسلنا.

أم طه اغتصبها ابن عمّها وهي في التاسعة من عمرها كي يحلّلَ وجودها في دار أبيه بعد أن مات والداها. أنجبت له خمس بنات فاغتصب ضحيّته الثانية بحجة أنّ الأولى لا تنجب ذكوراً. اعتاد أن ينهش جثتيهما تحت سقف واحد، ويفرّغ سمومه القذرة فيهما على فراش واحد، ثم ينهض في الصباح الباكر منافقاً متبجحاً ومراوغاً يسألهما عن ماء الوضوء علّه يطهّر يديه الملطّختين بدمائهما، موجهاً وجهه - استغفر الله - للذي فطر السماوات والأرض!!

لم تكن أم طه نموذجاً فريداً لا يستحق الذكر، ولم يكن أبو طه صورة مرفوضةً للرجل القميء، بل على العكس كان مفتي الحي وشيخ شبابه. يشرّع، يسنّّ ويفسّر حسبما تقتضيه متطلبات الفراش وغزارة السموم المتدفّقة في شرايينه القذرة. لطالما لمحته من نافذة عيادتي، يجوب الأزقّة حاملاً كرشه المندلق فوق ركبتيه، يبصبص من تحت نظارتيه الغليظتين متمتماً، متضرّعاً إلى الله علّه يعثر على ضحيّة أخرى.

أعترف أنكم استطعتم أن تخنقوا صوتي في وطني الأم الذي ما زال يعيش في عمق وجداني، لكنه في هذا العالم الحر أقوى من كلّ نفاقكم، وأعتى من كلّ أباطيلكم. سيخترقُ الأرضَ من قطبها إلى قطبها وسيصلُ أمَّ طه - عاجلاً أم آجلاً - نقياً، قوياً، مؤمناً، وعلى يديها المكبّلتين سنشهد جميعاً موتَ أبي طه مفتي الحيّ وشيخ شبابه!

د. وفاء سلطان

تشرين الثاني، نوفمبر 1994

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق