الثلاثاء، 1 يونيو 2010

فارس من ورق!!

البابُ الذي دخلتَ منهُ إلى أمريكا فأراً، تستطيعُ أن تخرجَ منه ولو كبرتَ وأصبحتَ جملاً!

*********

كان كاهنان بوذيان يهمّان بعبور نهرٍ غزير عندما اقتربت منهما امرأة باكية: أتوسّل إليكمــا أيها الكاهنين أن تساعداني في عبور هذا النهر. لقد عبرته في الصباح كي أجمع لأطفالي بعض الثمار والأعشاب البرية، أما الآن فالنهر هائج ولا أستطيع عبوره بمفردي.

رفض الكاهنان رفضاً شديداً فعقيدتهما البوذية لا تسمح للكاهن أن يلمس امرأة وإلا فسدت طهارته وخسر كهنوته! انفجرت المرأة بالبكاء: أتوسّل إليكما.. أطفالي بانتظاري. ستأكلني وحوش الغابة لو تركتماني أواجه قدري بمفردي!

فرّ أحدهما هارباً، بينما حنّ عليها قلب الآخر. رفعها على ظهره وعبر بها النهر، ثم تركها عند الضفة الأخرى ورحل.

التقى الكاهنان بعد فترة من الزمن. قال الأول موبخاً الآخر: إنني أشكّ في كهنوتك بعد أن لامس جسدك جسد تلك المرأة. بدا الآخر مستغرباً وتساءل: أية امرأة تلك التي تعنيها؟!!

"المرأة التي حملتها على ظهرك وعبرت بها النهر!.." أجاب الأول.

ردّ الكاهن الطيب: يا صديقي، لقد حملتُ امرأة محتشمة على ظهري، تركتها عند الضفة الأخرى للنهر ونسيتُها. أما أنت، فمنذ ذلك اليوم وأنت تحملها عارية في ذهنك، تمسّها كلما شئت، ثم تصبّ جام غضبك عليّ كي تهرب من عقدة الذنب التي تأكلك!

***********

قرأتُ مؤخراً كتاباً في علم النفس يؤكّد فيه الكاتب أن الإنسان لا يرى في حياته إلا ما يريد أن يراه. يذكر في أحد فصوله قصة طريفة.

كان رجلٌ يقود سيارته في طريق صحراوي منعزل وطويل عندما أشار المؤشّر إلى قرب نفاذ الوقود من خزانها. خارت قواه وأحس أن كارثة تنتظره إن لم يجد في القريب العاجل محطة تزوده ببعض الوقود. سخّر حواسّه كلها لمراقبة جانبي الطريق، وأخذ يتضرّع إلى الله. لم يمضِ زمن طويل حتى قرأ لوحة معلقة على مدخل طريق فرعي مكتوب عليها، Fuel (أي وقود). تنفس الصعداء وانحرف بسيارته عبر ذلك الطريق. وصل إلى نهايته ولكنه لم يرَ أية محطة بل محلاً صغيراً لبيع الوجبات الخفيفة. اقترب من البائع وسأله: "أين محطة الوقود؟"

"لا يوجد في هذه المنطقة محطة للوقود"، قال البائع.

"ولكنني رأيت لوحة معلقة على مدخل الطريق مكتوب عليها Fuel "

ابتســم البائع: "بل تقول تلك اللوحة Food (أي طعام) ولكن الإنسان الضائع، يا طويل العمر، لا يستطيع أن يرى سوى ضالته.

************

وصلني بالفاكس من أحد الأصدقاء قصيدة عصماء (!!) جادت بها قريحة "الشاعر" الفلسطيني السيد خيري حسين الحواري، جاء فيها:

(لا وفاء "لسلطان" آخر زمان.. يا وفاء الحقد على العرب والإسلام أصلحي نفسك أولاً.. ستصحّ نبوءة ماوتسي تونغ الذي وصف أمريكا ذات يوم بأنها نمر من ورق.. ولن يختلف مستقبلها عن ما آل إليه الاتحاد السوفييتي.. أوقفي هذا النفاق وهذا الحقد والخبث.. وننصحك بأن تعودي إلى ضميرك إذا بقي منه شيء، فمظاهرات المخانيث في كل المدن الأمريكية بعشرات الألوف كل عام والهوملس عددهم يتزايد كل عام ومدمني المخدرات والسكر وتبادل الزوجات وزواج الأخ من أخته والشاب من أمه ظاهرة واضحة.. الحرص على الديموقراطية في أمريكا هي كارثة العصر إذ لا حضارة فيها ولا أخلاق.. نحن غير معجبين بهذه الحضارة ونقول لكل من بهرته حضارة أمريكا مثل شواطئ العراة والمدن المخصصة لحضور مئات العائلات بدون ثياب عراة حتى من ورقة التوت نقول للمعجبين عبوا منها حتى ترتووا وانهلوا منها وعوّضوا ما فات وأمامكم من الوقت الكثير ولكن لا تجبرونا على القبول بها. للرأي العام ومجلس الأمن ودعاة العولمة والحضارة أقول: أختف..وه تفو على هيك حضارة في زمن تعدم فيه الحقيقة.)

***********

لم تكن هي المرة الأولى التي يثير بها هذا الرجل شفقتي!.. رأيت السيد خيري أكثر من مرة في أكثر من محفل غربي هنا في بلاد المهجر. رأيته مراراً يتأبط أكداساً من الورق ويزاحم الجميع كي يعلو منبر الحفل!

يتأفف الحضور وأبدو الوحيدة التي تستمع إلى زعيقه، فهو بالنسبة لي مثال حي وحقل دراسة لأمة ضحكت من جهلها الأمم!

ينطّ فوق المنبر ويجترّ كلاماً بالياً أكل الزمان عليه وشرب: يا أحفاد خالد بن الوليد.. طارق بن زياد.. يا أبطال يا صناديد.. يا أبا زيد الهلالي.. يا عنترة بن شداد.. يا طرفة بن العبد.. يا هارون.. يا مأمون.. يا صلاح.. يا قحطان.. يا عدنان.. يا علي.. يا حطيئة.. يا مقداد.. يا حافظ.. يا صدّام.. يا حسني.. يا أبا عمّار.. دكّـوا ترسانات أمريكا.. ألقوا اليهود في البحر. حررنا فلسطين.. عاشت فلسطين.. عاشت أمتنا العربية والموت للأعداء!..

يغادر الجموع، أخرج أنا أيضاً من الحفل.. لا أملك شيئاً أقوله سوى، يا حرام.. يا حرام.. يا حرام..

يرحل السيد خيري منتصراً، يصل بيته في أحد أحياء جنوب كاليفورنيا، يستلقي مطمئناً على وطنه السليب، ثم ينام ملء جفونه!.. فلا نامت على العزّ أعين الجبناء!!

************

رحل السيد الحواري عن وطنه كما رحلتُ أنا. كانت أمريكا بالصدفة قِبلة كلانا. بدأنا البحث في العالم الجديد، كلّ عن ضالّته!

لم يستطع هذا الرجل كضحيّة لتربية سقيمة أن يتجاوز في تفكيره المساحة الممتدة من ركبة المرأة إلى سرّتها منذ أن حلّقت الطائرة به متوجهة إلى بلاد المهجر. لقد استقرّت المرأة العارية في باطن عقله ولم تخرج!

رآها في المكتبة.. في الشارع.. في الحديقة.. في المحكمة.. في دور العبادة.. في المتجر.. في العيادة.. في وسائط النقل وفي المدرسة.

**********

مضى على وجودي في هذا البلد قرابة عقد ونصف من الزمن. لم اقرأ في حياتي عن ساحل العراة إلا في صحفكم، ولم أرَهُ إلا في عقولكم ونفوسكم. لم اسمع عن امرأة تزوّجت ابنها ولا عن رجل نام مع أخته إلاّ في أحاديثكم.

أزور المكتبة كل يوم بغية البحث عن كتاب فتمتد زيارتي ساعات دون أن أحس بالوقت. انهل من علومهم وأخاف أن يسبقني الزمن قبل ان أرتوي.

يحلّق النسر دوماً في أعالي السماء، بينما تبحث الجرذان عن مجارير المياه!

تنطبق عليّ وعليك يا أخا العرب حكاية عمر بن الخطاب عندما أرسل موفداً إلى بلاد العراق كي يتفقد أحوال الناس هناك. عاد ليقول: يا أمير المؤمنين، العراق بلد بغي كثير، الزنا والربا وأكل الحرام على قدم وساق. أرسل عمر موفداً آخر لمزيد من الاستقصاء فعاد يقول: يا أمير المؤمنين العراق مسجد كبير، العبادة والصلاة فيه على قدم وساق!

يا خيري، لقد وجد كل منا في أمريكا ما جاء يبحث عنه! أنت تنهل من سواحلهم وأنا أنهل من مكتباتهم!.. "قد افلح من زكّـاها وقد خاب من دسّـاها." (الشمس، 9 10 )

عام 1904 كتب المفكر الأمريكي أندرسون ستانلي معرفاً الرجل الناجح بقوله: الرجل الناجح هو الذي يأخذ من الناس أفضل ما عندهم ويعطيهم أفضل ما عنده.

ولقد نجحت أنت يا خيري ولكن نجاحك كان عكسيّ الاتجاه. لم ترَ عندهم سوى براميل قمامتهم، ولم تجد في جعبتك ما تعطيهم سوى بصاقك وشتائمك. هنيئاً لك على هذا النجاح!

تبصق على حضارة ثم تزج بناتك ونساءك بمحض إرادتك للعيش فيها.

أين هي جهنّم التي تتسع لثقافتكم وتكفي لحرق عظامكم؟!!

الباب الذي دخلتَ منه إلى أمريكا فأراً، تستطيع ان تخرج منه ولو كبرت وأصبحت جملاً!

ربطة العنق والطقم لا يصنعان من فزاعة الحقل رجلاً. الرجل الحقيقي يعفّ عما يَبصق عليه، أما الذي يتغوّط في صحن ثم يلعقه يستحق من كل عاقل أن يبصق عليه.

لماذا يقضي رجل وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً ولم يعد بين رجله اليمين وقبره سوى خطوة.. لماذا يقضي ثوانيه المعدودات مهتماً بما يجري على سواحل العراة وفي أسرّة الشاذين والمعتوهين متجاهلاً عمداً جمال حدائقهم وكثافة غاباتهم ونظافة مراحيضهم وعدالة محاكمهم وغزارة متاجرهم واتساع شوارعهم ودقة مواعيدهم وشدّة نظامهم وصفاء أنهارهم وحذاقة أطبائهم وبراعة مهندسيهم وعبقرية علمائهم وحجم اهتمامهم بصحة وكرامة الإنسان وسلامة البيئة وجودة الغذاء. "كل نفسٍ بما كسبت رهينة." (المدّثر 38 )

يدّعي السيد خيري بأنه يدافع عن الإسلام ثم يقول: ستصحّ "نبوءة" ماوتسي تونغ الذي وصف بها أمريكا بأنها نمر من ورق. ولكن يبدو أنه تجاهل ما قاله "النبي" تونغ أيضاً، بأن الله خرافة كبيرة لا توجد إلا في عقول المهووسين والمجانين.

إن كنت تؤمن بالشق الأول من عبارته فلا شكّ في انك تؤمن بشقها الآخر.

لن تستشهد بكلامه لو لم تدن بدينه!.. عار على الإسلام أن تكون من أتباعه! لن أعجب، وقد اعتبرتَ ماوتسي تونغ نبياً، أن ترى في صدام والقذافي والبشير أو لربما في أبي عمار أنبياء أيضاً!

وفاء "السلطان".. "وفاء الحقد"..!! أهكذا يخاطب الرجل المسلم امرأة؟! التنابز بالألقاب أسلوب زقاقي لا يتبناه إلا أولاد الشوارع الذين لم يهذّبهم وازع ديني أو رادع أخلاقي. "ولا تنابزوا بالألقاب." (الحجرات 11) تعلم أدب الحوار يا خيري! خاطبني باسمي، قارعني الحجة بالحجة وادفع بالتي هي أحسن، وإلا عار على الإسلام أن تكون من أتباعه.

هزيمتكم العسكرية أمام إسرائيل هي تحصيل حاصل لهزيمة أخلاقية وعقلية. الحرب في عالم اليوم حرب كلمة وقد آن لكم أن تتعلموا أدب الكلام!

يسألني السيد خيري أن أعود إلى ضميري!

صاحب الضمير يا سيدي يجب أن يدرك حقيقتين. الأولى: لماذا فرّ هارباً من وطنه. والثانية: لماذا لجأ إلى هذا البلد!

لا يهرب الإنسان من وطنه بمحض إرادته إلا عندما يصل هذا الوطن إلى حالة إفلاس عقلي وأخلاقي وديني واجتماعي واقتصادي وسياسي وعسكري. ولا يلجأ إلى بلد آخر إلا إذا آمن إيماناً مطلقاً بأنه سيجد فيه ضالته.

اللهمّ إلا إذا كان لديك من هجرتك غاية لا تختلف عن غاية عطا والجراح وحنجور وبقية أفراد العصابة. كراهيتك لهذا البلد تدفعني للاعتقاد بذلك.

أن تهاجر من وطن تؤمن بأن لك فيه قضية وديناً وكتاباً، إلى بلد لا ترى فيه إلا العراة والشواذ. انحطاط ضميري يحتاج إلى إعادة نظر!!

أنت فلسطيني بالولادة، ولكنك أمريكي شئت أم أبيت - بالقرار!.. أنت مسؤول أمام ضميرك عن صحة هذا القرار!

مؤمن بقضيتك؟!.. لا غبار على ذلك! لماذا لا تعود إلى بلدك وتلتزم بالدفاع عن هذه القضية حتى تنالها أو تموت دونها؟.. أم لعلّك فضّلت أن تهرب بأطفالك من جحيم القضية لتصفّق وأنت في أمريكا لأطفال غيرك وهم يفجّرون أنفسهم؟.. أتتصدق بالوطنيات من جيب غيرك؟ هذا انحطاط ضميري بحاجة إلى إعادة نظر!

زعامتكم هنا صارت مهزلة، وقضيتكم صارت نكتة!

قالت المضيفة لركاب الطائرة: أريد منكم رجلاً شجاعاً يضحي بحياته ويلقي بنفسه كي تخف حمولتنا فنتجنب كارثة جوية. انبرى فارس من ورق، عدّ حتى العشرة وألقى بالرجل الذي يجلس إلى جانبه.

عندما فجّر الشاب الفلسطيني عز الدين المصري نفسه في أحد المطاعم الإسرائيلية 548; قال والده، (وفي حوزتي نسخة عن المقابلة معه) : لماذا يزنّر هؤلاء الرجال أطفالنا بالقنابل؟ لماذا لا يزنّرون أنفسهم؟ لماذا يدفعون أولادنا إلى قتل أنفسهم؟

وقالت أمه: لو أعطوني العالم كله الآن هل تعتقد بأنني سأكون سعيدة؟..

إذا كنت مؤمناً يا خيري بهذا النضال، كل ما تحتاج إليه هو طفلك (وليس أطفال الغير) وكومة من البارود وزنار!! أما أن تتصدّق من جيب غيرك فهو انحطاط ضميري يحتاج إلى إعادة نظر.

أنا لا أحقد عليكم يا خيري بل أرثي وأشفق على حالتكم. وضعكم المزري وانحطاطكم العقلي والأخلاقي الذي تدهورتم إليه لا يمكن أن يحسدكم عليه أحد ولذلك فهو لا يثير في نفسي إلا الرثاء.

اختلف رجلان أحدهما من شيعة علي والآخر من رجال معاوية. الأول يقول، هذا جملي، والآخر يقول بل هذه ناقتي!.. لجأ الاثنان إلى معاوية يحتكمان فصاح معاوية في الرجل الشيعي: أعطه ناقته يا رجل. فقال الرجل: ولكنه جملي يا أمير المؤمنين. وعندما همّ الرجل الشيعي بالخروج منكسراً، صاح به معاوية كي يقترب منه، ثم همس في أذنه: اذهب إلى عليّ وقل له، بهؤلاء الرجال الذين لا يميزون بين الناقة والجمل سأحاربه.

منذ ذلك الحين ونحن نحارب أعداءنا بهذا النمط من الرجال. رجال لا يميزون بين الناقة والجمل. لا يميزون بين منبر الشعر وساحة القتال. لا يميزون بين المكتبة وساحل العراة، ولا يميزون بين ماوتسي تونغ والأنبياء.

أنا لا أحقد عليك يا خيري ولا على أمثالك، وهل يعقل أن يحقد الطبيب على مريضه؟..

أتمنى لو ترافقني مرة واحدة إلى المكتبة العامة علني أستطيع أن أريك الجانب الجميل من هذا العالم. علني أستطيع إعادة تأهيلك عقلياً وأخلاقياً وأنقذك من الورطة النفسية التي تعيشها. عندها ستكون أهلاً للدفاع عن القضية لا مجرّد فارسٍ من ورق. عندها ستعرف من منا يحقد على الآخر!

المعرفة يا خيري جعل الله أيامك كلها خيّرة لا تعرف الحقد، ولكن الجهل هو سيد الحاقدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق