الثلاثاء، 1 يونيو 2010

شروط الانتساب إلى جمعية العقلاء

بقلم د. وفاء سلطان

ساقت الأقدار جماعة من البدو لتحط رِحالها على ساحل ولاية كاليفورنيا بحثاً عن الماء والكلأ. طاب لهم المقام ووجدوا في تلك البقعة الجميلة من الأرض واحتهم المنشودة.

استبشر أحد الحكماء خيراً في العالم الجديد، ورأى أن من واجبه أن يغسل أدران بداوتهم ويساعدهم على اكتساب مهارات جديدة تمكنهم من مواجهة التحديات التي يفرضها المجتمع الجديد.

أرسل منادياً ينادي: على العقلاء من جماعة البدو أن يجتمعوا في بيت الحكيم للتفاوض في أمور تخصّ جماعتهم. شدّ الذكور أوتاد مضاربهم فوق رؤوس حريمهم.. كي يسلم الشرف الرفيع من الأذى.. وهرولوا يتناطح كبيرهم وصغيرهم على عتبة الحكيم كلٌّ يريد أن يَلِجها أولاً. تعثّرت قدم أحمد فسقط أرضاً. داس جابر على طرف دشداشته، فاستلّ خنجره وصاح: طاب الموت يا حمد!.. غرز بطيمان أظافره في ظهر خريبان، فبينهما ثأر قديم حان الوقت لأخذه. تبادلوا بئس الألقاب، كان أهونها وألطفها: يا حيوان!.. اضطرَّ الحكيم أن يتّصل برجال الأمن الأمريكي لفضّ الاجتماع!..

**********

التاريخ بمجمله سـلسـلة من الأحداث، والحدث عبــارة عن تحدٍّ ومواجهة. لكي تواجه تحدّيــاً ما، عليك أن تتسلّح بمهارات معيّنة تمكّنك من المواجهة. في عالم الصحراء، كان التحدّي الوحيد الذي جابه الإنســان هو الموت جوعاً أو عطشــاً، ولذلك لم يكتسب ذلك الإنســان من المهارات سـوى الغزو كوســيلة حياة فرضتها بيئة قاســية يكتنفهـا المجهول والغموض. أمــا في عالم اليــوم، صارت العلــوم والمعرفة التحدّي الوحيد الذي يواجه الإنســان. لذلك، وبناء على ما يؤكّـده عالــم النفس الأمريكي Stephen R Covey فإن أهم المهارات التي تمكّن إنسان اليوم من مواجهة التحدّيات هي فنّ الحوار Communication Skills وهو الفن الذي يقوم على أسس أربعة: القراءة، الكتابة، الحديث، والإصغاء. ولكن، يعطي هذا العالم للإصغاء الأهمية الكبرى باعتباره اللبنة التي تقوم عليها الأسس الأخرى، وله في ذلك عبارة شهيرة تقول: Seek first to understand, then to be understood ومعناها ببعض التصرّف، "اصغِ إلى المتحدّث وانشد أولاً أن تفهمه قبل أن تقاطعه وتفرض عليه أن يفهمك.

في شرائع البدو تغيب لغة الحوار وتسيطر استراتيجية الغزو. البدوي يحاور غازياً. هو عندما يصغي.. يصغي لكي يردّ لا لكي يفهم. يتكلّم وهو يصغي أو يهيّئ نفسه لكي يتكلّم.

يقول خبراء الحوار، عندما يصغي الإنسان إلى غيره يستمدّ 10 % من فهمه له معتمداً على كلمات الشخص المتحدّث، و30 % معتمداً على نغمة صوته وتواتره، بينما 60 % معتمداً على مراقبة حركاته أو ما يُدعى في علم السلوك Body Language لذلك، كي تفهم، عليك أن تصغي مستعملاً دماغك بشقّيه الأيمن والأيسر.

البدوي يصغي مرتكساً وليس فاعلاً. في لغة العلم يختلف الارتكاس عن الفعل. في الحالة الأولى لا يملك الإنسان وقتاً كي يستعمل قشرة دماغه (المراكز العليا في جهازه العصبي) بينما يتلقّى الأمر من نخاعه الشوكي (المراكز الدنيا). عندما زوّدنا الخالق سبحانه بالقدرة على الارتكاس Reflex Action كانت حكمته في ذلك أن نحمي أنفسنا. مثال على ذلك: عندما ترتطم يدك بجسم ساخن، تسحبها بسرعة ودون تفكير. وهذا يعني أنك في تلك الحالة تلقّيت الأمر من نخاعك الشوكي ولم تتلقّه من دماغك، فكان تصرّفك ارتكاساً وليس فعلاً.

في شرائع البدو، يُعتبر الحوار نوعاً من الصراع يخافه البدوي لأنه يهدد مصداقية أفكاره وعقائده وأخلاقه وأساليب تربيته، ولا يعتبره وسيلة تفاهم وتبادل قناعات واحترام آراء، ولذلك، يرتكس للمتحدّث بنفس السرعة التي يسحب بها يده المرتطمة بجسم ساخن!..

البدوي مخلوق خائف مرعوب، ليس لخوفه مصدر واقعي، بل هو وهم فرضته بيئة قاسية، قاحلة جرداء يكتنفها المجهول والغموض، من الصعب على المرء الذي يعيش فيها أن يتنبأ بما تحمله اللحظة التالية. لذلك يصبح كل منبه stimulus حوله، بما في ذلك الحوار، جسماً ساخناً عليه أن يرتكس له بسرعة دون أن يفكّر ودون أن يترك لدماغه فيه حرية القرار!..

إذن، وانطلاقاً من كون استراتيجية الحوار هي الوسيلة الوحيدة للتعايش مع الغير في عالم اليوم، نتوقّف هنا لنتساءل: كيف ومتى نتعلّم لغة الحوار؟.. على هذا السؤال يجيب المفكّر الأمريكي Robert Fulgham باختصار شــديد قائلاً: Everything I need to learn, I learned it in kindergarten أي، "كل ما أحتاج أن أعرفه، قد تعلّمته في مرحلة الحضانة!"

**********

قفل الحكيم بيته وعلّق على بابه لائحة كتب عليها: "من يودّ الانضمام إلى جمعية العقلاء عليه أن يرفق طلب الانتساب بشهادة تثبت أنه أنهى مرحلة الحضانة، وأصبح جاهزاً علمياً وتربوياً للارتقاء إلى المرحلة الابتدائية!!.."

صرّح مؤخّرا متحدث باسم الحكيم: لم يتقدّم أحدٌ بعد!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق