الثلاثاء، 1 يونيو 2010

أهلاً بعودتكم إلى وطنكم الأم!! د.وفاء سـلطان

أندرس توماس رجل هنغاري قضى ثلاثة وخمسين عاماً من حياته في أحد المصحّات النفسية في روسيا. لا أحد هناك يعرف من هو هذا الرجل. سجلات المستشفى تشير إلى أنه في 19 شباط 1947 توقّف قطار بجانب مصحّ للأمراض العقلية في مدينة لوثيلنيش الروسية وكان يحمل أسرى حرب. ترجّل رجل روسي من القطار يدفع أمامه شاباً في مقتبل العمر حتى اقترب من مدخل المصحّ ثم صاح: أســير حرب اسمه فلان الفلاني، يبدو مضطرباً نفسياً، لم يعد بإمكاننا السيطرة على هذيانه، اعتنوا به!.. ثم عاد فتعلّق بالقطار ورحل..

منذ تلك اللحظة وتوماس يعيش في سجنه النفسي، لم يتعلّم خلال أكثر من نصف قرن كلمة روسية واحدة. كان يهذي بلغة غير مفهومة اعتقد الأطباء الروس الذين عاينوه أنها مجرد هلوسة Gibbersh

في السنوات الأخيرة ساءت صحة توماس كثيراً وازداد هذيانه وهلوسته. نَخِرَت جميع أسنانه وسقطت، واضطرّ الأطباء إلى قطع إحدى ساقيه.

ساقت الصدفة رجل بوليس روسي من أصل هنغاري أن يقوم مؤخراً بزيارة المصحّ، وبينما كان يتناول طعام الغداء مع رئيس الأطباء أبلغه الطبيب أن عليه أن يقابل مريضاً يطلقون عليه "المريض اللغز" فلقد حيّرت قصّته عقول العاملين هناك. ووقعت المفاجأة كالصاعقة عندما صاح رجل البوليس: يا إلهي.. يا إلهي.. إنه هنغاري، إنه يتكلم الهنغارية!..

وصل الخبر إلى الحكومة الهنغارية فأرسلت على الفور وفداً يترأسه رئيس الأطباء النفسانيين في هنغاريا الذي قام بمعاينة المريض المذكور مصرّحاً: إن توماس قد توقّف فكرياً ونفسياً عند الزمن الذي دخل به المستشفى. يتكلّم عن حيّه وأهله في هنغاريا وكأنّ التاريخ ما زال 19 شباط 1947 . يستخدم في حديثه بعض الألفاظ التي تعود إلى ذاك الزمن والتي لم يعد أحد في هنغاريا يستخدمها..

صرّح رئيس الوزراء الهنغاري: سنحاول جاهدين استعادة توماس في اقرب وقت ممكن. أهلاً بعودته إلى وطنه الأم. وصرّح الطبيب الهنغاري المعني بالأمر: أعتقد أنه سيسترجع بعضاً من ذاكرته وصوابه عندما يعود إلى أهله وبلده..

*** *** ***

إلى أي مدى تزاوجنا، نحن العرب المهاجرون، الزمنَ الذي هاجرنا به؟!!.. لا أعتقد أفضل بكثير مما فعل أندرس توماس!!..

نستطيع أن نتأكد من صحة وخطورة تلك الظاهرة عندما نقرأ صحافتنا المهجرية التي تكرر حرفياً ما يقوم بترجمته وتأويله القائمون على الصحافة في الوطن الأم، والذين أشك في مصداقيتهم تحت ضغط القمع السلطوي الذي يُمارس عليهم. فبدلاً أن يكون المهاجر العربي مصدراً للمعلوماتية الموثوقة في كل المجالات، والتي يجنيها فقط عندما يتفاعل مع المحيط الأميركي الذي يعيش فيه، يأخذ منه ويعطيه، يتحوّل نفسه إلى مستقبل لما تمليه الظواهر القمعية التي تحكم إنسان الوطن، والتي أشك، كما قلت، في مصداقيتها!..

بل ولكي لا أظلم صحافة الوطن، اشعر أحياناً بأن الصحافيين العرب هناك متطوّرون فكرياً وثقافياً أكثر بكثير من الصحافيين المهاجرين، الذين توقفوا فكرياً وعقلياً عند العام الذي هاجروا به إلى حدٍّ أستطيع به أن أحدد الفترة الزمنية التي هاجر بها كلٌّ منهم، لأنهم عندما يكتبون، يتوقفون فكرياً عند تلك الفترة كما توقف أندرس توماس عند التاسع عشر من شباط 1947 !!..

*** *** ***

صرّح لي زميلٌ يُشغل وظيفة محترمة في إحدى الدوائر الحكومية الأميركية قائلاً: أذهبُ إلى العمل مرتدياً قناعاً، وعندما أعود إلى بيتي أخلعه!..

هناك فرق كبيرٌ بين أن تعيش وبين أن تحيا. لكي تحيا، عليك أن تتفاعل مع كل ظواهر الحياة المحيطة بك بلا أقنعة!.. ولكن عندما تصرّ أن تسجن نفسك داخل جمجمتك، تأكل وتشرب وتتغوّط، فإنك تحكم على نفسك بالموت الفكري والنفسي وتتحوّل إلى كرسي مهترئ ملقىً في إحدى زوايا بيتك!..

قال لي طبيب أميركي مختص في الصحة النفسية والعقلية يوماً: ليست الثقافة يا وفاء أن نملأ عقولنا بل أن نفتح تلك العقول..

عندما يحشو الإنسان دماغه، بغض النظر عن طبيعة الحشوة، رافضاً أن يفتح في جدران جمجمته، نافذةً للضوء والهواء، يتعفّن عقله ويصبح كبرميل للقمامة وبالاً عليه وعلى غيره!..

في علم الكيمياء، يطلقون على العنصر الذي لا يتفاعل مع محيطه، اسم "العنصر الخامل" Inert ، وكلّنا ندرك أن الكربون، الذي هو أخسّ العناصر وأهشّـها، يتحوّل، عندما يتفاعل مع ضغوط محيطه، إلى ماس، (الماس) أغلى المعادن وأصلبها. إذن هو قانون الطبيعة!!..

*** *** ***

في حفل مهيب جرى العام الماضي، نال خلاله زوجي الجنسية الأميركية مع ستة آلاف شخص آخر، خطب القاضي الذي شهد القَسـَـم فيهم قائلاً: أنا أميركي بالولادة، أما أنتم الآن أميركيون لأنكم اخترتم أن تكونوا أميركيين. والإنســان مسؤول عن خياراته إلى حدّ أكبر بكثير من مسؤوليته عن الظروف التي وجد نفسه فيها.

وضعنا جميعاً أمام مسؤولياتنا عندما نختار وعندما نقرر بأن نعيش في مجتمع اخترناه بمحض إرادتنا. مسؤولية تفرض علينا الأخلاق والقيم أن تلتزم بها. ولكي نفعل ذلك، علينا أن نخلع أقنعتنا، ونتحوّل من عناصر خاملة إلى عناصر قيّمة ونافعة.

من لا يحب الوطن الذي أعطاه كل شيء، لن يكون قادراً إطلاقاً على أن يحب الوطن الذي ظلمه وطرده وسلبه أبسط أنواع حرّيته وإنسانيته.

نحن نعيش في زمن لم يعد فيه من الثوابت إلا التغيير نفسه. لا تسجنوا أنفسكم داخل جماجمكم التي تنتمي إلى زمانٍ غير زمانكم!.. فويلٌ لمن يقوقع نفسه رافضاً أن يتكيّف مع متغيّرات زمنه!..

هناك مثل أميركي يقول: عندما يغلّف الإنسان نفســه يصنع بقجة صغيرة!..

نحن الآن أمام خيارين: إمّـا أن نفتح بقجاتنا، ونزيل أقنعتنا، فنؤثّر ونتأثّر ونكون بالتالي قادرين على أن نمدّ يداً صادقة إلى الوطن الأم، وإمّـا، وهو شـرّ الخيارين، أن ننتظر رئيس وزراء عربي يشفق على هذياننا وهلوستنا، وما آلت إليه حالتنا من تقوقع وتشرذم مصرّحاً: "أهلاً بعودتكم إلى الوطن الأم"، علنا نسترد بعضاً من صوابنا وذاكرتنا.. وعلنا نتجاوز ولو قليلاً، الزمن الذي هاجرنا به!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق