الثلاثاء، 1 يونيو 2010

ما زال وريدي ينزف

سألني صديق عزيز عليّ: أليست الكتابة صعبة يا وفاء؟!! كيف تجدين الفكرة؟!!

قلت: لا، بل هي عملية في غاية السهولة كل ما علي فعله أن أقصّ وريدي كل نهار وأبدأ النزيف!

*********

يقول الدكتور داهش (مؤسس الداهشية): "بعض الناس يكتبون من أجل اللهو، والبعض الآخر من أجل الحقيقة". لا يعرف الحقيقة إلا من يحس بالألم.. الإحساس ودرجة الألم التي يبدأ عندها هذا الإحساس تختلف من إنسان إلى آخر..

لكي تكون كاتباً، عليك أولاً أن تكون مرهفاً إلى الحد الذي تحس به بالألم عندما تدخل شوكة صغيرة قدم غيرك، حتى ولو كان هذا الغير فيلاً!!

عشر سنواتٍ مرّت على رحيلي. لكن طائرتي لم تقلع بعد. ما زالت حقائبي على أرض المطار. وما زلت أتأهّب للسفر.. أتوحّد في الوطن.. آلامه تؤلمني، وأي خبر مفرح - وما أقلّها أخباره! - يملأني زهواً وأملاً وفرحاً.

كلما دخلت متجراً هنا أتصوّر نفسي واقفة ساعات طوال على باب المؤسسة العسكرية للمنتجات الغذائية. وخالي أبو زيد الهلالي إذا صادفني حظ كبير وحصلت على علبة سردين أو صندوق من المحارم الورقية!!

بعض متبلدي الإحساس القادمين من الوطن بعد زيارة قصيرة، الذين يتبجحون بوطنيتهم هنا ويتأمركون هناك يقولون: صار الوطن بألف خير. امتلأت مؤسساته بالمواد الغذائية، وصار رصيد المواطن الواحد في السواق خمسين علبة سردين!.. لكن الجائعين هناك يقولون: عليك أن تجمع ما يتبقى من رواتب خمسين مواطناً بعد اليوم الأول من الشهر كي تكون قادراً على شراء علبة سردين!!

أنعم الله عليّ أو بلاني - فأنا لا أعرف إن كانت تلك الخاصة نعمة أم نقمة - بقدرة فظيعة على أن أحس بالألم، وبقدرة رهيبة على أن أصرخ عندما أتألمّ!

ولذلك يا صديقي تبدو الكتابة بالنسبة لي عملية غاية في السهولة. فأنا أكتب عندما أتألم، وأتألم عندما أنزف، وجرحي من النوع الذي من المستحيل أن يدمل.

أمامي كتاب طبي يقول: الجنتامايسين مضاد حيوي يوصَف لعلاج بعض الحالات الإنتانية المعندة على العلاج. في أميركا لا يُستخدم إلا في المستشفيات وتحت رقابة طبية عالية، لأن أعراضه الجانبية السامة خطيرة للغاية، فهو يسبب قصوراً كلوياً حاداً، ويؤذي العصب السمعي.

تستوقفني تلك العبارة، وأستعيد شريطاً من الذكريات المؤلمة!

الدكتور أديب، زميل لي، كان يؤدي خدمته الإلزامية في الشركة الوطنية لاستيراد وتعبئة الأدوية. عندما طار كعضو في لجنة مشتريات طبية إلى ألمانيا الشرقية لاستيراد كمية من الأدوية اللازمة، كان العرض أن نقايض الأدوية بشحنات من البطاطا المنتجة محلياً! رفض الألمان العرض بشدة قائلين: منذ أسبوع قدم مسؤول كبير في حكومتكم إلى ألمانيا الغربية واشترى صفقة من سيارات المرسيدس، ثم دفع ثمنها نقداً بالدولار..

وعاد أديب والوفد الوطني بخفي حنين!!

اتصل سيادة اللواء بالدكتور أديب يعلمه أن عليه أن يقوم بتزويد بعض المراكز الصحية بكميات من المضاد الحيوي (تتراسكلين)، والتتراسكلين يختلف عن الجنتامايسين بفعاليته وسمّيته وطرق استخدامه.. اعتذر الدكتور أديب شارحاً لسيادة اللواء بأن مخازن الأدوية نفذت، ولم توافق الحكومة الألمانية على عرضهم.. ردّ اللواء: هذا الكلام لا ينفع. اعتبر ما أقوله أمراً عسكرياً! وأغلق سماعة الهاتف.

لم يكن أمام المسؤولين في الشركة الوطنية لاستيراد وتعبئة الأدوية إلا خياراً واحداً. غلّفوا الجنتامايسين بأمبولات التتراسكلين وطرحوها في الأسواق.

ليست لدينا إحصائيات تدلنا على نسبة الوفيات من قصور كلوي بسبب التسمم بالجنتامايسين المغلّف بالتتراسكلين، ولكن لدينا إحصاءات دقيقة تقول: ما زال سيادة اللواء يتنقّل بسيارته المرسيدس الجديدة في شوارع العاصمة متفقداً شؤون الرعية في طريقه إلى المطار كي يشرح في المحافل الدولية سياساتنا الحكيمة وقضايانا العادلة!!

عندما أقول: هبطت علينا الحضارة دون سابق إنذار فأرهقتنا وسحقتنا، إنما أعني ما أقول!!

وصل إلى جنوب كاليفورنيا مسؤول عربي ليشارك أبناء الجالية احتفالاً بإحدى المناسبات الوطنية!.. أقيم حفل عشاء، دفع فيه كل مشارك 65 دولاراً كي يأكل صحناً من الحمص ويتبارك برؤية المسؤول الذي خطب فيهم قائلاً: أنتم نجومنا المتلألئة في سماء الغربة. عددكم يتجاوز الخمسة ملايين، وبإمكانكم أن توحّدوا

عندما قرأت النبأ تجمد الدم في عروقي وتساءلت: كيف يستطيع الواحد منا أن يبلد إحساسه ويجلس أمام مسؤول منافق كهذا، ثم يظل صامتاً؟!!

عندما كنا في الوطن، لم نكن نحظى برؤية ذلك المسؤول ، وإذا ما بحثنا عنه قالوا لنا: إنه في زيارة رسمية خارج الوطن لشرح السياسة الحكيمة لقيادتنا والقضايا العادلة لشعوبنا. انطلت علينا الحيلة، وهاجرنا لنفاجَأ بأنهم لا يعرفون عنا في (المحافل الدولية) سوى أننا شعب إرهابي دموي قاتل. وكانت المفاجأة أكبر عندما رأينا المسؤول العربي قادماً في زيارة رسمية إلى مطاعمنا العربية هنا يغرق خلالها في كأس النبيذ وصحن من الحمّص، ثم يناولنا في نهاية العشاء فاتورة الحساب!

ينصحنا سيادته أن نكون قوة ضاربة في أميركا!!

كان بودّي أن أذكّره بالمثل الإيطالي القائل: أن تكون الثاني في قريتك خير لك من أن تكون الأول في روما.

عندما أقول: كي تسقط الحكومة عليك أن تغيّر الشعب.. إنما أعني ما أقول!

عشر سنوات مرّت على رحيلي، ولكن ما زال وريدي ينزف، وفي قلبي من القهر ما يكفيني للكتابة ألف عام.

د. وفاء سلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق