الثلاثاء، 1 يونيو 2010

ما زال وريدي ينزف

د. وفاء سـلطان

حدث ذلك في الوطن الأم. قبيل هربي إلى أمريكا بقليل، دعاني أحد المعارف إلى حفلة عشــاء ستقام في داره بمناسبة اجتماعية غالية على قلبه وقلب حرمه المصون!

كان البيت يغص بوجوه المجتمع الراقية (طبعاً ليس حسب مفهومي للرقي وإنما حسب المفهوم الاجتماعي السائد).

بدأ صاحب الدعوة يعرّف الحضور على كل زائر جديد حتى وصل الدور إلى أحد السادة الرجال: "الســيد فلان الفلاني ملحقنا الثقافي في الســويد."

ملحقنا الثقافي في الســويد؟!.. خطر ببالي أن أصرخ كما صرخ أرخميدس عندما اكتشف نظريته.. "وجدتهــا. وجدتهـا!.." لكنني حبست أنفاسي وتظاهرت برباطة الجأش.

**** ****

كلما سنحت لي الفرصة أن ازور عاصمة بلدي، كنت أيمم وجهي شطر المركز الثقافي البريطاني لإعجابي الشديد بالطريقة التي يتعامل بها مع زواره وبقدرته الرهيبة على تزويد كل زائرٍ بِفيضٍ من المعلومات عن كل شاردة وواردة يودّ أن يسأل عنها، حتى غدوت أعرف كم زوجاً من الجرابات امتلك شكسبير وما نوع الكلب الذي اقتناه برنارد شو وكم قشة في قبعة الملكة فكتوريا.

سيلٌ من الأسئلة كان يلح عليّ باستمرار: عجباً!.. كيف نُمَثَّل ثقافياً؟.. من هم ممثلونا؟.. ومن يستطيع أن يمثّل أمة عريقة بثقافتها كأمتنا العربية؟.. ما هي الشروط المطلوبة لإشغال ذلك المنصب المقدّس؟..

لو دخلت سيدة حسناء سفارة من سفاراتنا في إحدى الدول الأجنبية وطرحت على ملحقنا الثقافي السؤال التالي: "لغتكم العربية لغة جميلة جداً، وأجمل فنونها الشعر، هل لك أن تزودني بأجمل بيت قيل في الغزل؟.." لن يحتــاج سيادته أن يسبر أغوار كمبيوتره فالعربي مشهور بقدرته على حفظ الشعر، وبسرعة بديهته في هذا المجال، كما هو مشهور برقة مشاعره التي تساعده على الإحساس بمواطن الجمال:

عينــاك بحرٌ إذا ما جبتُ شـــطّهمـا

صرختُ يا هدبُ أنقــذني من الغــرق!

*** *** ***

الآن أنا أمام ملحقنا الثقافي في أرقى دول العالم بلحمه وشحمه. وعليّ أن أنتهز أول فرصة سانحة كي أنهل من بحر ثقافته ما طال انتظاره.. اتخذت لنفسي مقعداً قريباً ثم أدرتُ قرون الاستشــعار في راداري كي ألتقط أول لحظة مناســبة. كنت محظوظة جداً تلك الليلــة. لم يطل انتظاري كثيراً فلقد تطرق الحضور إلى ذكر اسم أحد السادة الوزراء. التفت صاحب الدعوة متودداً إلى سيادة الملحق الثقافي وسأله: هل تعرف السيد الوزير فلان الفلاني؟

"طبعاً أعرفه.."، قال سيادة الملحق. "لقد زارني عدة مرات في السويد.. كنا نسهر سوية.. نشرب سوية.. نضاجع النســاء سوية!.."

قهقه الســادة الرجال فالعبــارة دغدغت مشــاعرهم، بينما تظاهرت النسوة بعدم سماعها ليقينهنّ المطلق أنه يحق للرجال قولَ وفعلَ ما يشــاؤون قوله وفعله طالما هم القوّامون!.. تسهرون ســويةً؟.. تشــربون سويةً؟.. تضاجعون النســاء سـويةً؟!.. أهكذا تمثلوننـا ثقافيــاً يا أولاد الـ..؟

لم أشك يوماً أنكم رقيقون رقة شعر الغزل نفسِه، لكني كنت أجهل أن رقتكم تكمن في تلافيف قشرتكم المخية. تتبجحون بأنكم لا تجلسون مع العدو الصهيوني بحجة خوفكم من أن يغزونا ثقافياً؟!.. أستغرب من يحق له أن يخشى غزو الآخر ثقافياً!.. أهو رجلٌ كملحقنا الثقافي يسهر كي يشرب ويضاجع النساء، أم امرأة كغولدا مائير تسهر من شدة القلق على مصير مواطنيها عندما تتذكر أنه يولد في الدقيقة الواحدة طفلان عربيان؟!..

أترك الإجابة على هذا السؤال للسادة الذين يمثلوننا في واشنطن ثقافياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأخلاقياً، باعتبارهم الأهمّ والأقرب إلينا الآن. وريثما يأتيني الجواب أتمنى لهم حظاً وفيراً وسهرات ممتعة مع صيد ثمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق