الثلاثاء، 1 يونيو 2010

صلاة لن تُستَجاب

قابلته في مكتب زوجي وجهاً لوجه، بعد غياب دام ثمانية أعوام. كدت لا أعرفه، فقد حفرت الثمانية أعوام في وجهه عشرين عاماً!

- ما الأمر يا عمّـار؟! تبدو مرهقاً! كيف أنت وما هي أخبارك؟

* ماذا تتوقعين ونحن نعيش في هذا البلد السافل؟!

- سافل؟!.. البلد بكل ما فيه ســـافل؟!!

* قاتله الله! لقد سرق شبابنا، ابتلعنا لحماً ورمانا عظماً. لعنة الله عليه وعلى اليوم الذي وصلنا فيه إليه.

- وملعون أيضاً يا عمّار من يشرب من بئر ويرمي به حجراً.

* أنا لم أشرب منه. هو الذي امتص دمائي.

- لكن الهجرة إليه كانت قرارك، وقرارك بالهجرة منه دوماً في متناول يديك!!

بدا عمّـار محاصَراً. تململ في مقعده، حاول جاهداً أن يتهرّب من صلب الموضوع.

* انتظري يا سيدتي، وستشهدين بأم عينيك انهيار هذا البلد!

- إذا كنت تنتظر انهياره كي تبني عليه مستقبلك سيطول انتظارك!

* ثلاثون عاماً على الأكثر وسيشهد العالم نهاية هذا البلد.

- أه لو كان كل العمّارين في أميركا مثلك يا عمّار لما احتجنا أن ننتظر تلك المدة وسنشهد النهاية بين الليلة وضحاها!

*********

هاجر عمار إلى أميركا منذ أكثر من عشر سنوات. جاور زوجي في مقعده عندما أقلتهما الطائرة إلى المهجر. تعهدا أن يكونا صديقين مخلصين في السراء والضراء، رغم أنهما انفصلا في المطار كلٌّ مع مضيفه.

بعد أسبوع اتصل زوجي يطمئن عليه ليفاجَـأ بأنه تزوج سيدة أميركية وانتقل للحياة معها في بيتها. كانت صدمة زوجي كبيرة عندما اكتشف أن السيدة الزوجة عجوز في - ربيعها - السبعين، بينما صديقه عمار لا يتجاوز الثلاثين!

مر العام الأول، أصيب خلاله عمار بعدة انهيارات عصبية نقل بعدها إلى المستشفى. حاولنا جاهدين أن نقنعه بالانفصال عنها، لكن الحلم بالكرت الأخضر والمال والثروة وقف حائلاً.. انتظر عمار عزرائيل عامين كاملين عله يقبض روحها، فكاد خلالها أن يقبض روحه!!

*********

تعرف عمار على سيدة مكسيكية تشتغل راعية للخيل في مزارع أحد الأثرياء الأمريكان، فانتقل للحياة معها في المزرعة. أغدقت عليه مالاً وحناناً، فبدا منتعشاً وسعيداً. لم يطل الأمر. اتصلت بي السيدة يوماً وهي تجهش بالبكاء:

- ما الأمر يا إريكــا؟

* غادرني عمّـار إلى غير رجعة!

- أين وكيف؟..

* لا أعرف. أخبرته بأنني حامل. أصر على إجهاض الجنين فرفضت. أنا من عائلة كاثوليكية متدينة لا تؤمن بالإجهاض..

**********

انقطعت أخبار عمار عدة أشهر، لنفاجأ به يوماً طارقاً بابنا وبصحبته سيدة عربية تتحرك بمساعدة كرسي كهربائي مصمم للمشلولين.

أصيبت إيميلي بشلل في طفولتها أقعدها عن الحركة. تخلى عنها أهلها، فاحتضنها أحد الأديرة في وطنها الأم.. هاجرت إلى أميركا في الخامسة عشر من عمرها بعد أن تبناها دير آخر في كاليفورنيا حتى بلغت سن الرشد. تبدو عليها علامات الثراء والرخاء. تقول أنها تدير شركة مقاولات كبرى لها فروع في عدة ولايات.

اتصلت إيميلي يوماً بزوجي تسأله عن حجم المبلغ الذي يدين به له عمار، فأكّد زوجي: عمار ليس مديوناً لي بسنت واحد!!.. ثارت ثائرة عمار، غضب، رغد وزبد واتهم زوجي بتخليه عنه بعد أن تعاهدا أن يكونا صديقين في السراء والضراء: "لماذا لا تقول أي مبلغ، وعندما تدفعه لك سنتقاسمه؟!!

كانت آخر عبارة تفوه بها زوجي معه: ولكننا لم نتعاهد أن نكونا صديقين في الإثم والشر!.. ثم أغلق سماعة الهاتف.

*********

ثمانية أعوام مضت، انعكس بها ضمير عمار المثقل على وجهه فبدا أكبر بعشرين عاماً!! ثمانية أعوام لم نسمع خلالها من أخباره إلا ما ندر. قيل لنا سافر إلى البلاد. تزوج فتاة في الثالثة عشر من عمرها، ثم جاء بها بأوراق تزور عمرها الحقيقي. حجبها عن أصدقائه ومعارفه في شقة لا يدري إلا الله سر ما يدور بداخلها. أنجبت له طفلين. يعيش الآن على النفقة المخصصة لهما من قسم الضمان الاجتماعي.

بعد ثمانية أعوام قابلته.. دام لقاؤنا عشر دقائق خلتها دهراً. استأذن بعدها كل منا الآخر، هو إلى الغرفة المجاورة كي يؤدي فريضة الصلاة وأنا لأغادر المكتب ملوحة له بيدي: تقبّل الله يا عمّـار.. تقبّل الله!

تقبّـل الله؟؟!!.. تساءلت في أعماقي وقشعريرة باردة تدب في أوصالي.

هل يتقبّل الله من رجل يلقي قاذوراته في كل مزبلة تعثّر فوقها، ثم يتنصّل من مسؤولياته ويتهرّب من أطفاله؟!

هل يتقبّل الله من رجل يخون قوانين البلد الذي أطعمه من جوع وآمنه من خوف، فيزوّر أوراقاً ويغتصب طفلة في الثالثة عشر من عمرها وهو يقترب من الأربعين، باسم الشرع والزواج؟!

أحسست لأول مرة في حياتي أن الله في ملكوته الأعلى سيكون هذه المرة من دعائي براء.

د. وفاء سلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق