الثلاثاء، 1 يونيو 2010

الكنار والفنار والكرباج

دكتورة وفاء سـلطان

لا تأتي الصدف كل يوم. لكن الشاب المكسيكي الفقير فرانكو غونزاليس الذي عبر الحدود حاملاً روحه على كفه باحثاً عن مستقبل آمن له ولوالديه قرر أن يرفض الصدفة التي حملت له ما يزيد عن مائتي ألف دولار، لأنها حسب أصوله التربوية وتعاليمه الدينية مالٌ حرامٌ لا يجوز الاحتفاظ به.

أثارت جريدة LA Times التي تصدر في كاليفورنيا القصة الخيالية لشاب مكسيكي فقير يغسل الصحون في أحد المطاعم في وسط مدينة لوس أنجلوس مقابل أجر شهري لا يتجاوز 1300 دولار. يرسل 800 دولار لأهله ويعيش هو على ما تبقى منها.

كان غونزاليس واقفاً في موقف باص في تلك المدينة الصاخبة في طريقه إلى العمل عندما مرت بجانبه الشاحنة المختصة بنقل الأموال من الشركات إلى البنوك. فُتحَ الباب الخلفي للشاحنة وطارت منه حقيبة مليئة بالنقود، حملها غونزاليس وعاد إلى بيته. أطلع زوجته على ما حدث. نام ليلتــه قلقاً متسائلاً هل يحتفظ بالنقود ويغسل بها فقره وفقر أهله أم يلتزم بمبدئه ويعيدها إلى البوليس.

في ساعة متأخرة من الليل صحا من فراشه وأدار جهاز التلفزيون يستمع إلى الأخبار. أطلّت المذيعة بوجهها البشوش تعلن: يتساءل جهاز الأمن في مدينة لوس أنجلوس هل بقي في هذا الكون رجل شريف سيعيد مبلغاً يزيد عن مائتي ألف دولار إلينــا؟!

صاح غونزاليس: أنا ذلك الرجل، أنا ذلك الرجل.. ثم اتصل بقسم البوليس، وبعد أقل من ساعة عادت النقود إلى فاقديها. تبرعت الشركة المعنية بالأمر بمبلغ 25 ألف دولار لغونزاليس.

غونزاليس لا يملك أوراق هجرة رسمية ولا حساباً بالبنك وستضطر تلك الشركة إلى دفع المبلغ نقداً خلافاً للأصول المتعارف عليها في أميركا.

يبتسم غونزاليس قائلاً: فعلت ما يريح ضميري ويرضي والدي. الناس تتهمني بالجنون، لكن هذا لا يهم.. المهم راحتي النفسية وقناعتي الشخصية. سأعود إلى بلدي وسأبني بهذا المبلغ بيتاً لأهلي.. البيت الذي حلمنا به جميعاً!

يعلق المتحدث باسم شرطة لوس أنجلوس على الحدث بقوله: سيمنح غونزاليس وسام الشرف لأمانته.. وضعه اللا قانوني لا يعنينا ولا يتطلب القانون منا أن نسلمه إلى دائرة الهجرة.

ويعلق متحدث باسم دوائر الهجرة قائلاً: نحن نلاحق الذين يرتكبون الجرائم ويخلون بالأمن لكننا نغض النظر عن الناس الشرفاء ونعطيهم فرصة بين الحين والآخر لتسوية أوضاعهم اللا قانونية.

تلك هي الصدفة التي رفضها غونزاليس، أما الصدفة التي فرضت نفسها عليّ اليــوم فهي تزامن حكاية غونزاليس مع سقوط منشور "الكرباج" في علبة بريدي!

"الكربــاج" منشور يعرفه تماماً المهتمون بالصحافة المهجرية. يروي حكاية شعب وحضارة أمة! ولكن يبـدو أن ملاّكه الأصليين قد ملّـوه فتخلّـوا عنه بعد أن فشلت نظريتهم في تحريـر فلسطين والدفاع عن أطفال العراق و.. و.. !!

لقد أبدع المالك الجديد في تقليد النسخة الأصلية من "الكرباج" وحافظ على مستوى المنشور فكرياً وأخلاقياً!!

ألقى (صلاح) كرباجه في صندوق البريد راسماً فيه شجرة عائلته بدءاً بجده الأكبر وانتهاء بحفيده الأصغر، ثم أسرع لكي يصل إلى أحد الاجتماعات قبل فوات الأوان، حاملاً في جعبته (خطة عمل!) لتطوير الثقافة المهجرية تتضمن عشرة بنود لم أطّلع عليها، لكنني متأكدة أنه نسي بنداً مهما وهو، أنه على المجتمعين أن يساهموا مادياً وفكرياً لتحسين مستوى الكرباج!

**********

يقول مثل روسي، "الإنسان كالنهر تراه أحياناً عميقاً كالبحر وأحياناً أخرى ضحلاً كالساقية.

كم كنت ضحلة عندما اعتقدت أن أنامل هذا (الفنان) لا تعرف إلا العزف على الناي!

تواسيني في تلك اللحظة كلمــات برنارد شو، "كلمــا تعمقت علاقتي بالنــاس، كلمــا ازداد حبي لكلبي."

"مثلما تكونوا يُولّى عليكم"، ورحم الله حافظ الأســد وأطال عمر صدام حسين وأمثاله!! فعندما تفشل التربية في تهذيب النفوس قد تنجح الجزمة العسكرية!!

**********

أخاف عندما أتســاءل: ماذا سنفعل لو وقع هذا البلد الجميل الذي نعيش فيه في أيدي هؤلاء البدو الرعاع وإلى أين سنلجأ؟! لكن صورة غونزاليس المنشورة على الصفحة الأولى في جريدة لوس أنجلوس تايمز لليوم الثالث على التوالي، تخفف من حدة مخاوفي، وتؤكد لي أن الدنيـا بألف خير مادامت هناك أمهات ترضع أطفالها لبان الخير والفضيلة. وإلا وعلى حد قول جدتي، رحمها الله، "إن خَلِـيَتْ خرِبَتْ"

رميت الكنار والفنار والكرباج في ســلة مهملاتي دون أن أبصق على كاتبهـا خوفاً على بصاقي من أن يتّسـخ، ودون أن ألعنه خشـية من أن أسيء إلى اللعنة. رميتهــا كلها وتوجهت مسرعة إلى أقرب محل لبيع الكلاب!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق