الثلاثاء، 1 يونيو 2010

الإرهاب الديني.. إلى متى؟!

وقفت سيدة عجوز على شاطئ البحر، تراقب حفيدها المراهق وهو يرقص بمزلاجه على سطح الماء.. لم يمضِ سوى بضعُ دقائق حتى هبّت موجة عنيفة وقذفت بالحفيد في لجّ البحر.. خارت قوى الجدّة، ركضت يمنة ويسرى، لا تعرف ماذا تفعل، ثم ركعت إلى الأرض ورفعت يديها إلى السماء: يا رب.. يا رب.. أعد إليّ حفيدي ســالماً. إني أعدك بأن لا أتثاقل عليك بعد الآن بطلب!

لم تكد الجدّة اليائسة تنهي دعاءها حتى هبّت الموجة نفسها ثانية وقذفت بالحفيد سالماً عند قدمي الجدّة. ركعت الجدّة إلى الأرض ورفعت يديها إلى السماء: أشكرك يا رب.. أشكرك.. لقد أعدت إليّ حفيدي سالماً، ولكن (تُطأطِئُ الرأسَ خجلاً من الحِنثِ بوعدها) هل نسيت أنه كان يرتدي قبعة؟!!

************

قبيل عيد الميلاد بأسبوعين - وكنت يومها حديثة العهد في أميركا - سألتني جارتي الأميركية كيرِن: ما هديّتك لزوجك في العيد؟!

قلت: لم أشــترِ بعد هدية!

كررت كيرِن سؤالها قبيل عيد الميلاد بأسبوع، فقلت: لم أشـترِ بعد هدية!

لم تيأس كيرِن، وعادت تكرر السؤال قبيل عيد الميلاد بليلة واحدة. خرجتُ من جلدي وقلت بحدّة: أنا لستُ مسيحية كي أشتري لزوجي هديّة!!.. ردّت كيرِن ببرودة أعصاب أميركية: ليس شرطاً أن تكوني مسيحية لتشتري لزوجك بمناسبة عيد الميلاد هديّة!

اتهمتُ يومها كيرِن بالجنون، أما اليوم إذا سمعتُ أن قبيلةً في أقاصي الصين تحتفل بطقوسها الدينية، وتقيم عيداً للإله، أحتفل معها وأصلّي لذلك الإله، ثم أشتري لزوجي بالمناسبة هديّـة!

صارت أيامي كلها أعيــاداً! امتلأت خزائننا بالهدايا، وكلما أنفقت في العيد - أيّ عيـدٍ - قرشاً، أمطر الله عليّ رحمةً وعافية وقروشاً!!

************

تعرّفت على شابة سلفادورية أثناء التحاقي بمعهد اللغة في جامعة Long Beach فور وصولي إلى أميركا. توطّدت صداقتنا. عندما انتهت دراستها وعادت إلى بلدها أهدتني لوحة حائط تذكارية نقشت عليها قصة بعنوان Foot Print اكتشفت فيما بعد أنها قصة شعبية معروفة في المجتمع الأميركي. تقول القصة، "كان رجل يمشي على شاطئ البحر بعد أن آمن إيماناً مطلقاُ بأن الله يمشي بجانبه. وكان يرى بعينيه آثار قدمي الله إلى جانب آثار قدميه. لكنه دهش عندما لا حظ أن آثار قدمي الله تغيب في الأيام الصعبة ولا يبقى إلا آثار قدميه.. رفع يديه إلى السماء وسأل مستفسراً عن سر غياب الله في المحن والمصاعب! جاءه صوت من السماء يقول: يا بني، ما تراه هو آثار قدمي، وليست آثار قدميك لأنني أحملك على ظهري في أيامك الصعبة!"

اللوحة معلقة على الحائط في غرفتي الخاصة، وهي أغلى ممتلكاتي وأحبها إلى قلبي؛ كلما ضاقت بي الدنيا أنظر إليها وأقرأ: يا بني ما تراه هو آثار قدمي، وليست آثار قدميك لأنني أحملك على ظهري في أيامك الصعبة!

***********

آن لاندر مرشدة اجتماعية أميركية تجيب على رسائل القراء، وتساعدهم على حل مشاكلهم على صفحات معظم الجرائد الأميركية. عشاقها كثيرون، وأنا واحدة منهم!

كتبت إليها إحدى القارئات تقول، "أنا سيدة أنتمي إلى جماعة دينية تدعى Wacco والمبدأ الذي يقوم عليه دين هذه الجماعة هو "لا تؤذِ" وهو مستمد من تعاليم المسيحية، بالإضافة إلى بعض المظاهر الطبيعية. مشكلتي أن لي زميلة في العمل تشاطرني نفس الغرفة، لاحظتْ يوماً أنني أرتدي عقداً يحمل رمزاً دينياً. سألتني عن طبيعة العقد، فشرحت لها انتمائي الديني. ثارت ثائرتها وادّعت بأنني ضللت السبيل وأن عليها أن تهديني إلى الدين الصحيح."

"أعود كل صباح إلى مكتبي لأجد بعض آيات إنجيلية وقد كتبتها على قصاصات ورقية ولصقتها على شاشة كمبيوتري. في أحد الأيام، سكبت كأساً من الماء دون علمي فوق رأسي وقالت: لقد عمدتك. أنت الآن طاهرة وعليك التفكير بالعودة إلى المسيحية.. رفضَتْ كل توسلاتي بأن تكفّ عن هدايتي ومضايقتي، فاضطررت مكرهة أن أتقدم بشكوى إلى الإدارة.. وجّه لها المدير تهديداً بالطرد. لم ينفع التهديد واستمرت إزعاجاتها وتحرّشاتها."

"مبدأي الديني يقوم على أن "لا تؤذِ" وأنا متأكدة إن كررتُ شكواي إلى الإدارة، سيضطرون إلى طردها. لا أريد أن أؤذيهــا تنفيذاً لمبدأي الديني. دليني ماذا أفعل؟!!"

ردت آن لاندر عليها تقول:

"إنّ محاولة إقناع هؤلاء المهووسين دينياً، مغسولي الدماغ، تبدوا ضرباً من المحال، فهم مقتنعون إلى حد الوسواس أن ما يفعلونه أمرٌ من الله، وليس لأمر الله بديل!.. مزقي قصاصات الورق التي تلصقها على كمبيوترك والقيها في سلة المهملات. حاولي بلطف أن تقنعيها بأنك مشغولة جداً وأن عليك أعمالا تطلب التنفيذ السريع. وعندما تجدين الوقت كافياً لنقاش هذا الأمر لن تترددي، وإذا لم تكفّ عن تصرّفاتها مع إصرارك على أن لا تؤذيها، أرى أفضل حل هو في البحث عن وظيفة في مكان آخر."

آن لاندر مسيحية ملتزمة، هذا ما توصّلت إليه من خلال قراءتي لردودها على مدى عشر سنوات، ولكن هذا لا يمنعها من أن تحترم حرية الآخرين وحقهم في اختيار عقائدهم، قالت بصلابة: مزقي الآيات التي تكتبها لك والقيها في سلة المهملات. ناقشيها بلطف، وما دام مبدأك الديني (لا تؤذِ) ارحلي بعيدا!

************

في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات غرق الوطن في بحر من الدماء.

كان المتصارعان قطبين كبيرين: رجل السلطة ورجل الدين. كل قطب يعتبر حربه ضد الآخر حرباً مقدسة. كلٌّ يعتبر صراعه ضد الآخر جهاداً في سبيل الله. دفاعاً عن دينه وإعلاءً لكلمته!

كان هذان القطبان شفرتين لمقصلة واحدة راح الشعب برمّته ضحيتها!

يوسف اليوسف واحد من أبناء هذا الشعب، باع أهله فراشهم وبقرتهم واسوارة أمه وبصل حقلهم. وأوفدوه إلى بلد أجنبي كي يختص في طب العيون.. عاد محمّلاً بشهاداته وأحلامه في عز شبابه وأوج عطائه. كانت غرفة عمليات مشفى حلب الجامعي محرابه، وكانت عيون مرضاه القبلة التي يتوجه إليها كلما أراد أن يصلّي لإلهه. لم يسأل مريضه يوماً عن دينه أو عن مذهبه. ولم يكن له في السلطة لا ناقة أو جمل.

ذات صباحٍ أمام باب المستشفى وعلى مرأىً من عيون طلابه، تعالت الصيحاتُ من كل حدب وصوب: الله أكبــر.. الله أكبــر.. وانطلق الحقد ليغربل جســده بالرصاص. فرجعت النفس إلى ربها راضية مرضية لتدخل في عباده وتدخل جنّته.

عندما انهار الدكتور يوسف اليوسف أمام ناظري بطريقة إرهابية مرعبة، انهار معه جهازي العقائدي الموروث، وتداعيت تحت سيل من الأسئلة: من.. كيف.. ولماذا؟!!

أدركت في تلك اللحظة أن الله قد رحل عن بلادي، فقررت أن أرحل - أنا الأخرى - بحثاً عنه واسترضاء له.

قررت أن ابحث عن إلهٍ لا يقبل أن تُراق قطرة دم واحدة باسمه. قررتُ أن ابحث عن إله يقبل في ملكوته كل الناس من كل الأجناس والأصناف والأديان.

قررتُ أن أبحث عن إله يحملني على ظهره في أيامي الصعبة، فأبكي على كتفه، ويربت على كتفي.. قررتُ أن أبحث عن إله اعبــده لأني أحبـّـه، لا لأني أخافــــــــه!

مات يوسف اليوسف.. ومات غيره الكثيرون. لا أحد يعرف من يقتل.. لماذا يقتل وكيف؟!!

كل ما عرفناه أن القتــلَ تمّ بفرمـان من الله!!

**************

(سوشــما) امرأة هندية. تعرّفتُ عليها في مجلس الأهالي في المدرسة التي تدرس فيها ابنتي وابنتها. لم تكن علاقتي بســوشما في بدايتها سهلةً، فهي امرأة مهووسة دينياً، وأنا بطبعي أنفر من هذا النمط من البشر الذين يحاولون أن يفرضوا وجودهم عليك من خلال معتقداتهم الدينية، متوهّمين أن الله حكرٌ لهم، وأنه لا علاقة لك به من قريب أو بعيد إذا لم تمارس طقوسهم وتؤمن بمعتقداتهم.

ولكن ما أجبرني أن أغيّر استراتيجيتي مع سوشما كونها امرأة تجيد فن الحوار. وهي تحاور بعينيها وأذنيها أكثر مما يلعلع لسانها خلافاً لغيرها من المتعصبين المهووسين!

بعد عدة أشهر، صارت سوشما أقرب إلى قلبي من شفافه، وصرتُ أقرب إليها من الوشم الذي يفصل بين حاجبيها. اتصلت بي صبيحة يومٍ صيفي حار: "اسمعي يا وفاء! في مدينة Artesia هذا الصباح وجدوا التمثال الذي يمثّل الله ينضح حليباً. أريدك أن تأتي معي كي تري تلك المعجزة بعينيك.

رحبت بالفكرة وطرت إليها. أوقفنا سيارتنا على بعد ميلين وترجّلنا سيراً على الأقدام، فلقد احتفلت الشوارع المؤدية إلى المعبد بالسيارات والمارة، والبوليس الأميركي يحاول تنظيم عمليات الدخول.. راوحنا في مكاننا قرابة ساعتين دون جدوى. أكلت الأرضُ من قدمي، وأذابت أشعة الشمس الحارقة دهن رأسي فقررت ان أرجع: اسمعي يا سوشما لقد أدركني الوقت ولم يعد بإمكاني أن أنتظر. أقسم لك يا صديقتي أن إيماني بإلهك ينضح حليباً لا يقل عن إيمانك، وليس شرطاً أن أراه كي أصدقك، فكما يتخيّل الإنسان ربّه يتجسّد له. لا سيما عندما يتخيّله مصدراً للحب والخير والعطاء وليس فرماناً للقتل.

**************

دين أي مجتمع من المجتمعات هو نتاج حضارته وظروفه البيئية والتاريخية، وبصورة أكثر دقة، دين أي إنسان هو نتاج تجربته الشخصية. وأهم عامل في تلك التجربة هو عائلته، بل تحديداً، والداه.. كيف يتعامل هذان الوالدان معه.. كيف يتعامل أحدهما مع الآخر.. وكيف يتعاملان مع محيطهما يرسم ملامح تفكير الإنسان ويحدد أبعاد دينه!

وعندما يبقى الإنسان رهينة تلك التجربة الذاتية، يضيق أفقه، وتنكمش ساحته البصرية، فينظر إلى الكون المحيط به من خلال ثقب صغير فلا يرى إلا تجربته الشخصية ويرفض أن يعترف بوجود غيره خارج حدود تلك التجربة.

لا يمكن أن يكون الإنسـان متسامحاً، محباً، مسالماً، رحيماً، قادراً على التعايش مع الناس خارج حدود تجربته، إلا إذا ارتقى فوق مستوى تلك التجربة واستطاع أن يوسّع دائرة الرؤيا عند لتشمل رويداً رويداً كل ما يحيط بتلك التجربة!

عندما تتهم إنساناً بالكفر تسطو على حقّه في استخلاص تجربته، وستفشل - مهما حاولت أو تظاهرت بأنك تحاول - ستفشل بأن تعترف بوجود هذا الإنسان وانتمائه إلى الكون والخالق اللذين تنتمي أنت إليهما!

قبل أن نولَـدَ حضّر آباؤنا بقجاتنا. خيّطوا لنــا اللهَ ثوبــاً على شاكلة أثوابهم، ووفقاً لمقاييسهم وأذواقهم. لم يٌراعوا أنّ لكل فردٍ تركيبته الشخصية ولم يعترفوا بقدراته العقلية على توسيع رقعة ذاته!

قالوا لنــا: هذا هو الله، نفِّـذوا ولا تعتـرِضوا!

تلك التربية الإرهابيّة القمعيّة أدّت إلى خلق إنسانٍ مسلوب العقل، فاقد الإرادة، عاجز عن الخلق والإبداع!

إنّ العدل المطلق المتمثّل في الله لا يمكن أن يحاسب وفاء سلطان بنفس المقياس الذي يحاسب به زيداً من الناس فزيد ووفاء مخلوقان يختلفان بنشأتهما وتربيتهما وظروفهما الشخصية والعائلية.

وطالما ترفض أي تربية الاعتراف بهذا الاختلاف وتلك الظروف، ستفشل في خلق إنسان يستطيع أن يخطو خارج غرفة الولادة التي لفظته بها أمه إلى الكون الأرحب معترفاً بخالقه وخلقه أجمعين. وسيظل ذلك الإنسان أصمّـاً لا يسمع سوى صدى صرخته الأولى وأنين أمه. وكفيفاً لا يرى إلاّ وجوه القلّة القليلة المحيطة بسريره!

الإنســان يتطوّر روحيـاً، وليس الإيمان بتجربة شخصيّة محضة، إلا مرحلة دنيا من مراحل هذا التطوّر. من استطاع أن يرتقي فوق مستوى ظرفه وتجربته وعائلته ويتحرر من تعصّبه، يسمو روحانياً، يقترب من الله، وتصبح نظرته للكون المحيط به أكثر عدلاً وشمولية. ولا نستطيع أن نحقق هذا السموّ والارتقاء إلاّ إذا تسلّقنا سلّم المعرفة والعلوم.

لم أتعامل مع عالمٍ - بغض النظر عن حقله وعرقه - إلا ورأيت فيه جزءاً من الله.. إلاّ وشعرتُ بســموّه الروحي بنفس المقدار الذي شعرت به بسموّه الفكري والعقلي. ولم أتعامل مع مهووس دينياً إلا وشعرت بضيق أفقه وعجزه واضطراب فكره وعقله!!

الحرب والقداسة برزخان لا يمكن.. لا يمكن.. لا يمكن أن يلتقيــا.

وإذا كُتبت علينا الحربُ، وكان لا بدَّ أن نعترف بقدسيّتها، يجب أن تكون تلك الحرب ضدّ (مفهومنا لله) وليس دفاعاً عن الله الذي يستطيع بعدله وعظمته أن يدافع عن ملكوته.

قبل أن نتحرر من ديكتاتورية تربيتنا، يجب أن نحرر الله من الديكتاتورية التي صبغته بها تلك التربية!

أما الإيمان به فهو إحساسنا بالحاجة إليه. تلك الحاجة التي تمتد من أقصى السؤال: "ربي، أعد لي حفيدي سالماً"، إلى أدناه: "ولا تنسَ - يا صاحب الجلالة - أنه كان يرتدي قبّعة!"

د. وفاء سلطان 2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق