الثلاثاء، 1 يونيو 2010

سقطنا في صحن التبولة وغرقنا في مستنقع من الزيت

د. وفاء سلطان

جمعنا صحن تبولة. كنا أربعة وسـينا الصغير خامسنا. أميرة سيدة لبنانية، كانت تشتغل مُدرّسة في بلادها؛ تتقن الفرنسية والإنكليزية بالإضافة إلى إتقانهــا العربية. ليلى، طبيبة عراقية هاجرت مع طفليها وزوجها الطبيب إلى أميركا عقب حرب الخليج؛ تتقن الإنكليزية والعربية على حد ســواء باعتبارها درست الطب وتخصصت به في جامعات بريطانيا. ســيما صديقة إيرانية شابة وأم لطفلين، تتقن الإنكليزية والفارسية بالإضافة إلى إتقانها العربية؛ وأغلب الظن أنها من عرب الأهواز، على أبواب تخرّجهـا من معهدٍ للعلاج والتشخيص بالأشعة.

.. كنت منهمكة في تحضير صحن التبولة، وسينا الصغير ابن صديقتي سيما ينط حولي ويضفي على أشعة الشمس المتناثرة في مطبخي مزيداً من الضوء.. احتدم النقاش وكان أشبه بالصراخ.. تمحور الحديث حول مقالة نشرتها إحدى الصحف العربية عن أحكام الصلاة والصيام، وهل قطرة الأنف تفسد الصيام أم لا!!

اختلفت النسوة، تشعّب الخلاف، تناهى إلى مسمعي الزعيق، فبدأت أصب قليلاً من الزيت في صحن التبولة!

أميرة ترد الخسارة في حرب الخليج إلى خيانة الضباط الشيعة في الجنوب، تحمل ليلى رأس الحسين وتطالب أهل السنّة بدمائه، وتلقي سيما طابتها في مرمى الخميني.. فأصبّ المزيد من الزيت في صحن التبولة!!

يرتفع الزعيق من جديد، يدخل الحديث مزيداً من الدهاليز، تتناهى إلى مسمعي عبارات عن صلاة التراويح.. طريقة مسح الرقبة أثناء الوضوء.. الركوع والسجود.. حزب الله وآياته، جلابيبه وعمائمه.. فأصبّ المزيد من الزيت في صحن التبولة!!

مئات السنين ولم نتّفق بعد على طريقة مسح الرقبة أثناء الوضوء، لكننا وبعد ساعتين من الصراخ اتفقنا على أن نسقط في صحن التبولة ونغرق في مستنقع من الزيت!!

***********

عندما تخرّجت صديقتي سحر من معهد التعليم العالي لتأهيل المعلمين والمعلمات، صدر أمر بتعيينها في إحدى القرى التابعة لمحافظة اللاذقية. جميع سكان تلك القرية من الطائفة العلوية، لكن سحر لا ترى القرى من خلال طوائفها. اندفعت بروح الشباب وتعلّقت بأول باص في طريقها إلى القرية تحمل ألام وآمال مائتي مليون عربي. عادت إليّ في اليوم التالي منكسرة الخاطر، منخفضة الجناح والدموع تملأ عينيها: في درس التربية الوطنية يا وفاء، طرحتُ سؤالاً على الأطفال، من هو عدوّ الأمة العربية؟!.. أجابتني فاطمة ببراءة طفوليّة أخّاذة.. "أهل الســنّة يا آنســة!.." حملتُ حقيبتي وتعلّقت بأول باص في طريق عودتي إلى اللاذقيّة!

في المهجر، دعاني أحد الزملاء الكتّاب إلى حفلة عشاء أقامها في داره على شرف مفكّر كبير (!!) قادم من البلاد بمهمّة وطنية (!!!) للإطّلاع على فكر الجالية العربية في لوس أنجلوس.

طالت محاضرة المفكّر الكبير، عرج خلالها على هزيمة 1967 فقال يشرح أسبابها: "لقد هُزمنا بسبب خيانة الضباط العلويين على الجبهة السورية".

اعترضتُ قائلة: أشكرك لقد فهمنا الآن أسباب هزيمتنا على الجبهة السورية، هل تتكرم علينا بالمزيد وتشرح لنا أسباب هزيمتنا على الجبهة المصرية؟!.. فرد على الفور: "ضباط المغفور له جمال عبد الناصر لم يكونوا على مستوى وطنيته فخذلوه!"

أفهم من كلامك ســيادة المفكّر الكبيـر أن جميع الطوائف اشتركت في الخيانة!

بعد عدة أيام من اللقــاء تجاذبت وزميلي الكاتب صاحب الدعوة أطراف الحديث. قلت له: كيف تقبل هذا الطرح في بيتك، وتدّعي أنك وحدوي حتى العظم؟.. أجابني بدبلوماسية غاية في الأدب والتهذيب: "والله لو سمعته لتدخّلت في الأمر!" (يبدو أن زميلنا الكاتب كان هو الآخر منهمكاً في تحضير صحن التبولة!!)

جاء "المفكر الكبير" كي يطّلع على فكر الجالية العربية فأطلعنا على فكره الذي لم يتجاوز حدود تفكير فاطمة، مع احترامي لطفولتها وبراءتها، فهي ليست إلا ناتجاً تربوياً لأمها وأبيها وشيخ طائفتها.

مأساتنا تبدأ بفاطمة وتنتهي بالمفكّر الكبير مروراً بأميرة وليلى وسيما، ناهيك عن الشريحة العريضة من الشعب التي لا ما زالت تظن أن الملك فاروق يحكم مصر!!

على عتبة داري ودّعتني النسوة. شــددن علي أيدي بعضهن البعض. اتفقن على أن يختلفن. تبادلن أرقام الهواتف وتعاهدن على اللقاء.. أما أنا فتهاويت في مقعدي المجاور منهكة القوى ولسان حالي يتضرّع إلى الله: يا رب، إني أسألك سؤال متذلل خاشع، أن تنعم عليّ ببعض الجهل، لأنني لا أريد أن أعيش حياتي بلا انتماء، أو أموت بلا هوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق