الثلاثاء، 1 يونيو 2010

انصبوا سوراً حول الأمة!

د. وفاء سلطان

  • لماذا نفشل كأشخاصٍ في إقامة نسيج اجتماعي متماسك ومتين.
  • فشلنا يؤكد نجاح تربيتنا في إفشالنا!
  • كل واحد منا جزء من المشكلة ويجب أن يكون كل واحد منا جزءاً من الحل.
  • لم يولد أحمد الصغير عاقاً، بل كان ضحيةً لتربيةٍ عاقّة.
  • **********

    رحم الله السلطان عبد الحميد. ليعذرني قارئي، إنها المرة الأولى التي أترحم فيها عليه محكومةً بالظرف!

    بين يدي نتائج دراسة قام بها عالم نفس أمريكي هاكمُ فكرة موجزة عنها:

    عندما يتعرّض الطفل إلى إساءة طويلة الأمد يُصاب بتأذٍّ دماغي Brain Damage بالإضافة إلى درجة ما من فقدان الذاكرة Memory Loss وهي نتائج جديدة تُضاف إلى سلسلة النتائج التي سبق وأثبت العلم صحتها.

    ينضج الإنسان نفسياً وجسمياً بشكل تدريجي خلال مراحل العمر المختلفة. إن أحد وأهمّ مظاهر النضج هي النضج الجنسي. The Maturation of Sexuality عندما يصل الإنسان إلى ذروة نضجه الجنسي، يكون قد ارتقى بغريزته الحيوانية إلى مستوى الحب. الحب لشخص ناضج آخر من الجنس المغاير لجنسه، وعندما يصل الإنسان إلى هذا المستوى، يرتقي بحبه لشريك حياته إلى حبه لأطفاله الذين هم ثمرة هذا الحب. وعندما يحب أطفاله، يرتقي بحبهم إلى مستوى الاهتمام اللا محدود بهم وتربيتهم والعناية بهم.

    أثبتت التجارب والدراسات العلمية بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا التطور في النضج الجنسي من مرحلة إلى أخرى، يُعاقُ كلياً عندما يتعرّض الإنسان في طفولته لمعاملةٍ ظالمة تسيء إلى نفسه أو جسده. إنّ الأذية التي تنجم عن المعاملة تؤدي إلى توقف التطوّر الجنسي وبقائه في المستويات الدنيا للشهوة الحيوانية وأحياناً أخرى يتدنّى إلى مستوى أقلّ نضوجاً، ينحرف فيه الشخصُ المُساءُ إليه، ويصبح ضحيةً لاضطراباتٍ نفسية وشذوذات سلوكية.

    في كل مرة يُضرَبُ فيها الطفل، يتلقى درساً يؤكد له أن الميل إلى العنف هو الوسيلة المثلى لتصحيح السلوك، فتولد لديه رغبة لممارسة عنفه على الآخرين في محاولة لتصحيح سلوكهم الذي لا يتوافق مع مزاجه. تبقى هذه الرغبة مدفونةً إلى اليوم الذي يصبح فيه أباً. آنذاك يحين الوقت ليلقّن أبناءه نفس الدرس الذي لقّنه إياه والده. وتنتقل الرغبة في الإساءة من جيلٍ إلى جيل، ويبقى المجتمع ضحية جريمة لن تتوقف إلا بالقضاء على جيلٍ من المسيئين، وحماية الجيل المُســاءِ إليه. يقول عالم النفس Zabala بهذا الخصوص:

    If children remain in houses where there is repeated abuse, they are likely to internalize the behavioral models to which they are exposed

    (إذا أُبقي الأولاد في نفس البيوت التي تعرضوا فيها إلى معاملة سيئة متكررة، فإنهم غالباً ما يتطبعون بالنموذج السلوكي الذي تعرّضوا إليه.)

    يولد الإنسان دون أن يمتلك أية قدرة موروثة على تقييم نفسه والعالم المحيط به. والإحساس بالذات وبوجود الآخرين، وتقييم تلك الذات وذلك الوجود، يُكتَسَب من البيئة المحيطة بالطفل وخصوصاً بالناس الذين يعهد إليهم برعايته والعناية به.

    من أصعب المهمات التي يواجهها المختص النفسي عندما يعالج طفلاً تعرض لمعاملة ظالمة هي رفع معنوياته وثقته بنفسه وبقيمته كإنسان. يميل الأطفال الذين يتعرضون للضرب إلى الاعتقاد بأنهم يستحقون هذا العقاب لأنهم عاجزون عن إنجاز أي عملٍ مثمر، فينهشهم الخوف والقلق من فشلهم أمام أصدقائهم والمحيطين بهم، وكردة فعل على هذا الإحساس المخزي، يميلون إلى الانفرادية ويفقدون القدرة على إقامة علاقات اجتماعية متوازنة وسليمة.

    على ضوء ما تقدّم أتساءل: لو حاولتُ أن أستعرض طفولة الإنسان العربي دون الحاجة إلى التعمق في دراستها، ما هي النتائج التي سأخرج بها؟!

    ما يزيد خطورة هذه النتائج وجود حقائق أخرى تدمغ عاداتنا وتقاليدنا ومفاهيمنا وأصول تربيتنا دون سواها، فتجعل من الإساءة للطفل في عالمنا العربي كارثة اجتماعية يصعب أن تُطبَّق عليها الحلول التي وضعها المختصون في علم النفس والتربية، أوجز بعض هذه الحقائق على سبيل المثال:

    أولاً: العقاب الجسدي هو أحد أهم وسائل التربية العربية، هذه الوسيلة مقبولة اجتماعياً ولم نصل بعد إلى مستوى النظر إليها كجريمة تُقترف بحق الطفل والمجتمع.

    ثانياً: ينظر الأهل في مجتمعنا العربي إلى الطفل نظرة بدائية جداً على أساس أنه ملكية وليست مسؤولية، ومن المسلم به أنه يحق للأهل أن يتصرفوا بأطفالهم كأية قطعة أثاث أخرى دوت الاعتراف بحق المجتمع فيه ومسؤولياته أمامه.

    ثالثاً: عبارة Child Abuse غير موجودة في قاموسنا اللغوي، لا نعترف بوجودها بحياتنا. عندما حاولت أن أترجمها استخدمت عبارة "الإساءة إلى الأطفال" رغم إيماني الشديد بأن هذه العبارة لا تؤدّي المعنى المقصود! قضيت سبع سنوات في المدرسة الطبية، ودرست خلالها وبإسهاب علم السلوك والطب النفسي، وكان معظم مدرسينا خريجي الجامعات الغربية والأمريكية، لكنني لا أذكر يوماً أنهم تطرقوا إلى هذا الموضوع يبدو لأننا وعلى اختلاف درجاتنا العلمية ما زلنا نؤمن أن العقاب الجسدي هو الوسيلة المثلى للتربية.

    رابعاً: وهي النقطة الأهم على الإطلاق، تأتي التربية العربية كردة فعل آنيّة لحظية، وليست عملية متكاملة ومستمرة. بمعنى أن الأهل يستجيبون لسلوك الطفل الذي لا يناسب توقعاتهم فيعمدون إلى ضربه لقمع هذا السلوك. وعندها تتوقف العلاقة بين الأهل والطفل حتى لحظة أخرى يكرر فيها الطفل سلوكه أو يأتي بمثله. والنتيجة، قمع السلبيات ـ طبعاً حسب مفاهيمهم ـ دون العمل على تشجيع وخلق الإيجابيات، فيشب الطفل العربي ليكون مخلوقاً منفعلاً، مضطرباً، خائفاً منعزلاً عاجزاً عن التكيف مع واقعه لأنه لم يتعلم يوماً كيف يواجهه!

    من منا لا يذكر أم أحمد وهي تهرول ورائحة الطبيخ تفوح من أسمالها، تقتحم غرفة الصف وتصيح: يا حضرة الأستاذ اللحم لكم والعظم لي، أوكلت عليه الله، إنه ولد عاق!! وتنهال عصا الأستاذ وأحمد الصغير يزقزق كالعصفور مكسور الجناح داهمته عاصفة هوجاء.

    لم يولد أحمد الصغير عاقاً بل كان ضحيةً لتربية عاقة. ولم تكن عصيهم معنية بسلخ لحومنا، بل نسخت معها قشرتنا المخية وعقولنا، ورمت بنا في خضم الحياة الكبير أشباه بشرٍ نعجز عن إقامة أبسط أنواع العلاقات الاجتماعية.

    فشلنا يؤكد نجاح تربيتنا في إفشالنا. كل واحد منا جزء من المشكلة، ويجب أن يكون كل واحد منا جزء من الحل. لذلك تراني أترحم على السلطان عبد الحميد محكومة بالظرف وإليكم القصة من أولها:

    أخبر والي حمص سكان المدينة ـ الحمصيون مشهورون بروح النكتة وحلاوة المعشر ـ أن السلطان عبد الحميد سيقوم بزيارتهم وعليهم أن يرتدوا أبهى ملابسهم ويستقبلونه على مشارف مدينتهم. اشترى الحمصيون صرامي جديدة (والصرماية نوع من الأحذية اشتهروا بصناعته) لكنهم أدركوا بعفويتهم الصادقة، وهم يسلكون طريقاً صعبة أن السلطان وكلابه لا يستحقون أن يُضحّى بأحذية جديدة من أجلهم! فعمد كل منهم إلى خلع إحدى الفردتين والقفز على القدم الحافية، ثم استبدال اليمنى باليسرى إلى أن أدركوا موكب السلطان، فخلعوا الفردتين ووقفوا حفاة. سألهم السلطان في نهاية اللقاء عما يبتغونه من حضرته فصاحوا جميعاً بصوت واحد: ابنوا لنا مصحاً للأمراض العقلية كي نعالج مرضانا! التفت السلطان عبد الحميد إلى معاونيه وأومأ لهم: انصبوا سوراً حول المدينة!

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق