الثلاثاء، 1 يونيو 2010

لو كنت قاضياً! لو كنت قاضياً!

نشب خلاف حاد بين سيدة عربية وابنتها المراهقة. تمحور الخلاف حول رغبة الفتاة بثقب أنفها وتعليق قرطٍ به. الأم تصرخ وتتوعّد وتؤكّـد لن يتمّ ذلك إلا فوق جثتها!

التفتت إليّ الأم وهي ترتجف من قمة رأسها حتى أخمص قدميها وعلامات الإعياء والشعور بخيبة الأمل تغزو ملامحها ثم توجهت إليّ بالسؤال التالي:

بالله عليك لو كنت قاضياً بماذا تحكمين على هذا الجيل الفاسد؟

- أحكم على آبائه بالإعدام!!

تشهق متســائلة: ولماذا؟

- لأنهم أفســدوا هذا الجيـل.

*************

أعرف ســعاد بحكم الجوار منذ أكثر من ستة أعوام، نلتقي دائماً، وكلما التقينا، لا تملك شيئاً تقوله سوى الشكوى والتذمّـر من سلبيات المجتمع الأميركي الغارق في الرذيلة والجنس والمخدّرات.

جئنا إلى هذا العالم تتحكّم بمواقفنا منه اعتبارات سياسية ودينية وعرقية لم نستطع أن نتجاوزها، فانعكست سلبياتنا تجاهه على أساليب حياتنا وتربيتنا لأبنائنا حرمناهم - كما حرمنا أنفسنا - من الاستمتاع بمواطن الخير والجمال في المجتمع الجديد.

ما هي الرسالة التي توجهها الأم العربية إلى ابنتها المراهقة على مدى سنوات طوال عندما توقر أذنها بأن المجتمع الأميركي غارق برمته في الجنس والجريمة والمخدرات؟!

باختصار شديد: أريدكِ أن تكوني العاقلة الوحيدة في مجتمعٍ من المجانين.. أو باختصار اشد: ارتمي في النار وإياكِ أن تحترقي!

إنّ المراهق، وكنتيجة حتميّة لسيكولوجيّة هشّة غير مستقرّة، يميل إلى الانصياع إلى أقرانه، ويرى في ذلك هويّته ووجوده وإحساسه بالأمان والانتماء. عندما ينظر المراهق إلى المجتمع الذي يعيش فيه بعيـون والديـه المتعصبين، لن يرى فيه إلاّ بؤرة من المجانين لكنّه ومع ذلك يفضّل أن يكون مجنوناً على أن يكون العاقل الوحيد!

هذا ما يؤكّده علم ال Social Psychology ويطلق على تلك الحالة اسم Conformity ولا أجد تفسيراً لها باللغة العربية سوى (نزعة الفرد للانصياع للمجموع) هذه النزعة تخفّ أو تقوى بناءً على عوامل عدّة يطول شرحها، لكن ما أستطيع أن أؤكّده هو أنها عالية الشدّة عند المراهقين، لذلك، فقد ثبت أن التركيز على الإيجابيات Positive Selective هو أسلوب تربوي ناجح أكّده علم النفس وأقرّ باستخدامه وطالب القائمين على تربية الجيل الجديد بالتخفيف من المواقف السلبية وعدم الإكثار من استخدام عبارة (لا تفعل)، بل على العكس، لفت النظر إلى الإيجابيات والإكثار من عبارة (افعل) بعد إيجاد البديل الأفضل.

مؤخراً كنت أراقب وأولادي على شاشة التلفزيون مطاردة بين رجال البوليس ومجرم فار يقود سيارته بسرعة تزيد عن تسعين ميلاً في الساعة معرّضاً حياته وحياة الآخرين للخطر.

عندما ينظر قليل البصيرة إلى الشاشة، ماذا يرى؟..

يرى على الأغلب ما تظهره عدسة الكاميرا، سيارةً تسابق الريح يقودها مجرمٌ طائشٌ مجنون!

لكن أولادي وبناء على الطريقة التربوية التي أنشأتهم عليها، ستمتد بصيرتهم خلف حدود الظاهر، لترى ما لا تعرضه الشاشة في معظم الأحيان، ترى على الأقل ثلاثين رجلاً من أفراد البوليس يخاطرون بحياتهم من أجل حماية المجتمع وسلامة أفراده.

لن يروا فقط سيارة تُقاد من قبل مجرمٍ فار بسرعة جنونية، بل سيدركون بحواسّهم - المدرّبة لالتقاط مواقف الخير واستنباط مواطن الجمال - سيدركون أن في الأفق طائرة هليكوبتر (واحدة على الأقل) تحلّق ترصد وتنقل للمواطن تفاصيل الحادث بصدق وأمانة، ناهيك عن مئات الأفراد الآخرين الذين يديرون العملية ويوجهون رجال البوليس ضمن شبكة اتصال غاية في التنفيذ والدقّة.

تلك هي أميركا، رجلٌ مجنون فار من قبضة العدالة ورجال مدرّبون لحماية تلك العدالة!.. والفرق بين الصورتين، كالفرق بين إنسانٍ يرى الأمور ببصيرة سليمة وآخر تقوده عصبية أعمت بصره وبصيرته!

يخطئ من يظن أنني أنفي وجود سلبيات قاتلة في ذلك المجتمع، لكنني ممن يؤمنون بأن إيجابياته أكثر بكثير من سلبيّاته، وبأنّ التركيز على الإيجابيّات أسلوبٌ سياسيّ معافى خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بإنشاء جيل سليمٍ معافى.

انتهت المطاردة بوقوع المجرم في أيدي العدالة.. صفّقَ الأولاد منتشينَ فرحاً.

صاحت نجلاء: عندما أكبر سأنضمّ إلى سلك البوليس.

نظرت إلى فرح كي أقرأ ارتكاساتها فرأيت ابتسامةً عريضةً تمتدّ من أذنها إلى الأذن الأخرى لكنني - أشكر الله - لم أرَ قرطاً يتدلّى من أنفهـا!

د. وفاء سلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق