الثلاثاء، 1 يونيو 2010

عندما يتحوّل الله إلى جرعة من أفيون!

د. وفاء سلطان

خرجتُ من بلادي لا أعرفُ الله إلا خوذةً وبندقيةً ومهمةً عسكرية!

لم تكن ابنتي نجلاء قد بلغت الخامسة من عمرها عندما سألتني:

"ماما.. هل يحب الله أمّهُ؟" قلتُ: نعـم!

فكّرت قليلاُ ثم تابعت: "وهل يساعد الله أمّه في غسل الأطباق؟.." قلتُ: طبعـاً!

منذ ذلك الحين ونجلاء تحبني أكثر مما أحببتُ أمي لأنها تعرف أن الله يحبُّ أمَّـهُ. منذ ذلك الحين ونجلاء تساعدني في غسل الأطباق أكثر مما ساعدتُ أمي لأنها تعرف أن الله يساعد أمّهُ.

ليتني تعرّفتُ على الله بنفس الطريقة التي تعرفت بها عليه ابنتي نجلاء!! (للحديث تتمة. المقطع مأخوذ من كتابي "السجين الهارب")

***********

تزوّجتْ عمتي شيخَ الحي، وسكنت بيتاً صغيراً ملحقاً بسطح الجامع.

كان أبو علي رجلاً غليظاً، فظ القلب، شكوكاً، صعب المراس. لم أكن أحبه، وكان يبادلني نفس الإحساس!

شعور غريب انتاب كلاً منـا بأنّ الآخر يشـكّل خطراً عليه. كلما رآني ألعب مع ابنته في الزقاق، يتظاهر بأنه يفتش عن حجر كي يضربني، فأنطّ تسبقني قدماي، أو يتوارى هو خلف باب الجامع كي يؤدي فريضة الصلاة!

أذكر يوماً ذهبتُ وابنتَه إلى حانوتِ الحي كي نشتري لعمتي بعض الحاجات. نست سعاد ما أوصتها عليه أمها، فعدنا راجعين ووقفنا أمام باب الجامع. رفعت سعاد رأسها باتجاه شرفة البيت وصاحت: "ماما.. هل تريدين كوسا أم باذنجان؟

ردّ أبو علي عبر ميكروفون الجامع وهو يرفع الأذان: "كوسا يا رسول الله!.."

بعد أكثر من ثلاثين عاماً اتصلت بسعاد كي أطمئن عليها بعد أن سمعت أنها تعاني من مرض عضال، سألتها في سياق حديثي: "كيف حال الشيخ أبي علي؟"

ردّت بألم: "آخ يا وفـاء!.. أبو علي، أبو علي.. كوسا يا رسول الله!"

لو سألتَ أبا علي آنذاك: "ولمـاذا كوســا؟!.." لَـرَدَّ على الفور: "رواه مســلم وبُخاري!"

عند تلك النقطة يصمت كل شيء، يصبح السؤالُ ضربـاً من الارتداد، والقتلُ سيدَ الحوار!!

************

نزلت من القطار في محطة ترينتون، كي أستقل قطاراً آخر في طريقي من نيوجرسي إلى بنسلفانيا بعد أسبوع عمل مرهق قضيته في معهد "فيليشين، روثفورد، نيوجرسي". جلستُ في قاعة المسافرين أنتظر الموعد. على يميني عربة مليئة بالمكسّـرات يقودها رجل قصير، كبير الرأس، عريض المنكبين، خلته للوهلة الأولى من الهنود الحمر.

ترك عربته وتقدم إلى وسط القاعة ثم رفع الأذان: "الله أكبـر.. الله أكبـر.. قد قامت الصلاة.. قد قامت الصلاة.."

شعرت بالارتياح. اقتربت منه في محاولة للتحدث إليه علّني استردّ بعضاً من قوّتي.

"السـّــلام عليكم!.." ويردّ بدهشــةٍ: "وعليكم السـّــــلام!

  1. هل تتكلّم العربيّـة؟
  2. أقرأ العربيّـة فهي لغة قرآني.
  3. وهل تفهمهــا؟
  4. نعم.. نعم.. يتهرّب من السؤال ويتابع بالإنكليزية: هل تودّين الدخول في الإسلام؟..
  5. بل أنا مسلمة.
  6. تقدح عيناه كجمرتين ملتهبتين: أنت لست مسلمة ولا تنتمين إلى الإسلام!

  7. من أنت كي تقيّمني؟! المؤمن الحقيقي لا يتعدّى على حقّ الله!

وبصوتٍ كهدير الطاحون يتابع بلا أدب: هل أنت مجنونة؟.. المرأة المسلمة تغطي رأسها ووجهها. تقبع في بيتهــا تربي أطفالها ولا تتجوّل في أرض غريبة بين الرجال.

  1. والرجل المسلم يلبي دعوة الجهاد ولا يولي الأدبــار!!

لم يأبــه لكلامي، وازدادت طاحونته هديــراً: هل أنت مجنونة؟.. عودي إلى بيتك كي تربي أولادك!

  1. نعم أنا مجنونة، لأنني توسّمت خيراً في رجل مدمن مهووس!.. أيها الأبله! لو عرفت نساؤكم كيف يربّين أطفالكم، لكانت الباكستان سويســرا الشرق، ولما سقطتم على أبواب هذا العالم شحاذين!

وبعربية فصحى لن يفهمهــا ولا يقرأها بل يتلوها كالببغاء، تابعتُ: لعنة الله عليك.. ما أشدّ جهلك!

دفعت حقائبي أمامي وتركته ورائي يفتش عن حجر كي يضربني، وصوته يقرقع في أذني: كوســا يا رســـول الله!

***********

ســكود طفل في صف ابنتي نجلاء. قال للمعلمة يوماً: أمي ليست قادرة على شراء الأدوات المدرسية اللازمة لمشروع هذا الفصل. في صباح اليوم التالي، عاد سكود ليجد على طاولة مقعده المجموعة الكاملة للأدوات اللازمة. سأل المعلمة مستفسراً: لمن تلك المجموعة؟!

وقفت المعلمة وسط الصف وسألت الطلاب: هل نسي أحد منكم أدواته على طاولة سكود؟ لم يرد أحد. فتابعت المعلمة: إذاً.. بإمكانك أن تأخذها طالما لا تعود ملكيتها لأحد من رفاقك.

أدركت نجلاء، كمــا أدرك كل الأطفال، في ساعة اللاوعي عندهم أن مسز ليديل قد اشترت لسكود أدواته، ولكنها لا تريد أن تجرح مشاعره أمامهم.

تبرّع الحاج حمد للجامع في حيّنــا بســجادة عجمية فور عودته من الحج. طبّلت الدنيا وزمّرت، وصار كرم الحاج حمد حديث الحي.

في حيّنــا أكثر من عشــر عائلات تتضوّر جوعاً، وثمن السـجادة العجمية كفيل بشــراء ملابس وطعام العيـد لجميـع أطفالها. ولكنّ أرض الجامع أحوج إلى الســجادة بكثيـر، فالله لا يمشي إلاّ على أرض من الســجاد!

*************

عندما يقع الإنســان ضحيّة تربية دينية قمعية متزمتة، ينشأ رافضاً لكل تغييـر يفرضه ظرف خارج عن إرادتــه، بغض النظر عن ضرورات ونتائج ذلك التغيير. مفاهيمه، تصرّفاته وتحرّكاتــه، تتقولب ضمن نظام فولاذي، جامد متصلّب لا يسمح بأي نوع من التجديد. ضمن كلاليب ذلك القالب الرهيب يتحوّل العقل البشري إلى آلة مبرمجة، لا تعطي ولا تأخذ، لا تضيف ولا تحذف!

ينتاب ذلك الإنســانَ إحســاسٌ وهمي بالأمان. يتخيّـل أنه أغلق على نفسه كل المصادر التي تهدد سلامته، وكل النوافذ التي تحمل رياح التغيير!.. يرفض السـؤال، يرفض الشــك والحوار، يتحوّل إلى بائع غشــاش يخزن بضاعته الفاسدة في صناديق حديدية ويفرضها بقوة على الناس. هو نفسه وفي اللاوعي يشك بمصداقية بضاعتــه، وشـكُّـه يدفعه في وعيه إلى مزيد من الانغلاق!

عندما يكون الإنســان نتاج قالب فكري متزمت وجامد ولا يقبل الانفتاح، يرى الحياة نقيضين، أبيض وأسود؛ هو الأبيض، ومن خرج عن مســاره قيــد شــعرة صار حالك الســواد!

كتبت مرة أقول: ارفعوا عن ظهري ســوط هارون الرشــيد الذي ما زال يأكل من جسـدي. ردّت علي سـيّدة عربية بما معناه: "أتريدين أن تكوني امرأة غربيّـة غارقة في الانحلال؟!"

لا يوجد لديهم خيار آخر: إذا رفضت أن أكــون جارية في بلاط هارون الرشــيد، فأنا بمنظارهم غربيّـة منحلّة الأخلاق!

لا يرون في الغرب إلا وكــراً للدعارة، ولا يرون أنفسهم إلا كلوحٍ ناصع البياض!.. وكنتيجة حتمية لمفهوم "النقيضين" يقع هؤلاء البشر ضحية لصراع نفسي قاتل، يتشتتون تحت وطأته بين عالمين؛ العالم الذي تخيّلـوه وسجنوا أنفسهم رهائنه، والواقع الذي يحيط بهم ويعجّ بالمتغيّرات!

ينعكس صراعهم على تصرّفاتهم، يشـتمون الغرب ثم يتزاحمون على أبـواب سـفاراته، يبتهلون إلى الله كي يفتح لهم دربــاً. يتركون وراءهــم الغالي والرخيص ويرحلون، يزجّون أطفالهم في حضن مجتمع طالما رفضوه وكرهـوه وأدانوه، وهم يدركون في أعماق أنفسهم، أنهم ومهما شــدوا الخناق، سيخرج الجيل الثالث على الأكثر من أحفادهم منصهراً في البوتقة الاجتماعية، غربي العقل واليد واللسان!

حتى المرأة الغربية نفسها التي يتهمونها بالعهر والانحلال، تلك المرأة تصبح مدرّسة لبناتهم ومرشدة نفسيّة وموجّهة اجتماعية، بل، والأكثر من ذلك، تصبح تحت القانون الغربي أحق منهم ببناتهم إن أساءوا لهؤلاء البنات!

يدركون ذلك لكنهم يتظاهرون بأنهم غير معنيين، شأنهم في ذلك شأن النعامة التي تدفن رأسها في الرمل وتطلق مؤخرتها في الهواء!

*** *** ***

الإنســان الذي يضع نفســه تحت وطأة هذا الصراع لا يمكن أن يكــون إنســاناً سليماً معافىً عقليـاً ونفســياً!

في الطبّ النفسي يعرّفون كلمة "جهاز" على أنه مجموعة من العناصر التي تلتصق ببعضها عبر روابط غاية في الدقّـة والنظام. أيّ ضغط خارجي على الجهـاز يســاهم في كسـر تلك الروابط معرضاً إياه للتفتت والانشطار. والجهاز العقلي لدى الإنســان لا يخرج عن نطاق تلك الحقيقة!

الضغط الذي يخلّفه الصراع بين عالمين. عالم متزمت، قاحل، صلبٌ، يهووه ولا يعطيهم شيئاً، وعالم زاخر حيّ مليء بالمتغيرات، يكرهونه، لكنهم يحتاجون إليه بدءاً بحبّة الأرز وانتهاء بملعقة الدواء. هذا الضغط يحطّم جهازهم العقلي ويحوّلهم إلى مرضى نفسيين معقدين مهووسين ومدمنين! يصبحون عالة بل خطراً على البشرية والبشر أجمعين!

هذا لا يعني أبداً أن الذين بقوا هنـاك ولم يرحلوا إلى الغرب قد نجوا من براثن هذا الصراع، فالشرقي يغلق أبوابه ونوافذه بحجة أنه يحمي نفسه من الرياح الغربية، بينما كل ما حوله، من حبّة الأرز في صحنه، إلى تلفونه النقّـال مصنوع في الغرب. إنه يعيش على مبدأ "عيني ترنو إليه وتبّـاً عليه!"

في أرشيفي صورة لمجموعة من الشـبّان الفلسطينيين الذين طردهم معمر القذافي عبر الحدود الليبية المصرية اثر توقيع اتفاقية السلام. في هذه الصورة بدا الشبان يحملون أحدهم على أكتافهم وهو يحرق العلم الأميركي ويرتدي في الوقت نفسه قميصاً قطنياً تزيّنه عبارة Chicago Bulls !! رهيبٌ هذا الصراع!

** ** ** **

قرأت ذات مرة مقابلة لأحد رجال الدين المعروفين، جاء فيها قوله: "نحن في البلاد الإسلامية لا نحتاج إلى برلمانات تمثل الشعب، فالله أنعم علينــا بقوانين جاهزة. أما في الغرب فليس لديهم كتاب ولا شرائع ولا قوانين، لذلك يضطرون إلى إنشــاء برلمانات لتنظم لهم حياتهم."

بعد المقابلة بعدة سنوات طالعتني صحيفة عربية بنبأ مفاده، أنّ طائرة تابعة للنظام الحاكم في إحدى الدول العربية قد قامت بنقل جلالة الشيخ المذكور إلى السويد حيث قام الأطباء باستئصال ورم خبيث استقر في قاعدة جمجمتـه. أطال الله عمر البرلمــانات الغربية كي تُطيــل عمر الشــيخ ويظل قادراً على تطبيق قوانين الله!

لو سمح جلالته ببرلمانات عادلة ونزيهة تمثّل الإنســان وتحميه، لالتصق أطباؤنا بمرضاهم هناك، ولوفّروا عليه مشقة السفر ومنّة بشــر لا شريعة لهم ولا كتاب!! رهيب هذا الصراع!!!

** ** ** **

سياسة "عيني ترنو إليه وتبّـاً عليه" حالة عقلية مَرَضيّـة تحتاج إلى علاج والعلاج مسؤولية كبيرة صعبة ومعقّدة، لن تستطيع البوارج الأميركية أن تقوم بها، بل يحتاج الأمر إلى معلم وكتاب!

كل مظلّة عسكرية تسقط فوق أفغانستان يجب أن تحمل معلماً وليس مقاتلاً!

كل شحنة يجب أن تتضمن كتـاباً وليس قنبلة!

القوة قد تحمي الســلام، لكنهــا لا تستطيع أن تصنعه!.. يستطيع أن يصنعه معلمٌ وكتاب.

معلم يعلم القراءة والكتابة، وكتــاب يبرهن: أن وضع المرأة في أي مجتمع هو المقياس الأول لحضارته!

** ** ** **

سقطت امتنا ضحية طغمة جاهلة، عبثت بدينها ودنياها، استغلّت الظروف التاريخية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نجمت عنها، فاحتكرت عقول الناس، قزّمت تفكيرهم وأحالتهم إلى ضحايا إدمان ديني، بعد أن حوّلت الله في خلايــا دماغهم إلى جرعة أفيون حرقت يابسه وأكلت أخضره. كل قضية تخدم

مصالحهم يمررونها بسهولة عبر "مسلم وبخاري" دون حسيب أو رقيب بلا علم أو ضمير. وظَّفوا الله في مضابطهم، هم يسنّون ويدّعون أنه يختم لهم، وعلينا أن ننفذ دون أن نمتلك حقا بأن نعترض أو نشك أو حتى نسأل.

قبيل حكومة الطالبان كانت النســاء في أفغانستان تشكل 70 بالمئة من الجهاز التدريسي و50 بالمئة من الخدمات العامة و40 بالمئة من الأطباء. بين ليلة وضحاها، أصدرت طغمة جاهلة مهووسة مدمنةٌ فرماناً قِـيـدت بموجبه النســاء كالأغنام من أماكن عملهنّ وأٌلقي بهنّ في زوايا كهوفهنّ المظلمة، ليقبعن تحت سيطرةِ رجالٍ ارتفعت نسبة إدمان المخدرات بينهم خلال بضع سنوات من صفر إلى أربعة أخماس، ناهيك عن الإدمان الديني!

** ** ** **

أصدر وزير الصحة في تركيا مؤخراً قانوناً لا يُسـمَحُ بموجبه لأي فتاة أن تتقدم إلى مدرسة التمريض قبل التأكد من سلامة غشاء بكارتها.

احتجّت المنظمات الإنسانية واعتبرت الأمر خروجاً وقحاً عن الآداب والأخلاق.

صرّحت رئيسة مدارس التمريض في تركيا بقولها: لا نستطيع أن نضمن سلامة غشاء البكارة إلا بتنظيف عقل الرجل.

لا نستطيع أن نحمي نعجة في غابة إلا بقلع أنياب الذئاب!

** ** ** **

قارئ يسأل: من هي المرأة الناشز؟! ويجيب شيخ جليل (!!) على صفحات إحدى الجرائد الصادرة هنا باللغة العربية: هي المرأة التي ترفض أن تذهب مع رجلها إلى السرير، وتلك المرأة ستلعنها الملائكة حتى الصباح، وعندما تفعل ذلك تناديها حوريته من السماء، ويحكِ هو عندك إلى حين! وسيعود إليّ عاجلاً!

يجهل هذا الشيخ التركيبة البيولوجية الهرمونية والاجتماعية النفسية للمرأة، فيحوّلها بجهله إلى دمية خلقها الله من أجل إرضاء شهوات الرجل، وعندما تفشل في أداء تلك المهمة المقدسة (!!!) يسلّط عليها جيشاً من الملائكة يلعنها حتى الصباح! (كيف يساهم هذا الطرح في خلق العقلية الإرهابية؟.. هذا ما سأناقشه في مقالتي القادمة)

** ** ** **

عندما يسقط العقل البشري إلى هذا المستوى يشكّل خطراً على الجميع!

كيف يستطيع إنســانٌ أن يحبّ غيره قبل أن يحبّ أمّه وأخته وزوجته؟..

وكيف يستطيع شعبٌ أن يقيم سلاماً مع شعوب الأرض عندما لا يستطيع أن يقيم سلاماً مع نسائه؟!

يتساءل الأميركان في أعقاب التفجيرات الإرهابية الأخيرة: لمـاذا يكرهنا هؤلاء؟!! ويجيب المعتدلون: إنها السياسة الأميركية في المنطقة!

أودّ أن أطرح سؤالا اً آخر: ولماذا يكره هؤلاء نســاءهم؟!!

ستسطع كل الحقائق عندما يجيبون على هذا السؤال!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق