الثلاثاء، 1 يونيو 2010

عاشت البلدية.. عاش المختار!

د. وفاء سلطان

هبت عاصفة هوجاء ضربت صدر المدينة التي أعيش فيها في جنوب كاليفورنيا. كان من جملة ضحاياها شجرة وارفة الظلال، غاية في الجمال، تتوسط المساحة الخضراء المنتشرة أمام بيتي.. اقتلعتها العاصفة من جذورها فحزنت عليها. بكيت وشعرت أنني فقدت صديقاً عزيزاً كان له الدور الأكبر في اختياري لهذا البيت. عندما اخترته قلت: ستكون تلك الشجرة بأزهارها الصفراء الجميلة التي أبدعت يد الخالق في رسمها ملهمتي!.. أنا لم أكتب الشعر يوماً، لكنني سأكتبه الآن! سأتغنى بالجمال.. بالحب.. بالطبيعة.. وربما أستغفر الله بالوطن على طريقة تجار الشعر والضمير!

المهم، اتصلت على الفور بمركز بلدية المدينة. كان سؤالهم الأول بعد أن شرحت لهم الحالة: هل تشكل الشجرة المقتلعة خطراً على المارة؟.. قلت: لا.. لقد أزحتها أنا وزوجي إلى مكان آمن.

"نشــكركِ على ذلك، سنكون هناك في الحال."

لم يمضِ من الزمن إلا قليله حتى تمت جميع عمليات التنظيف، وغرست شجرة أخرى من نفس النوع، بل أوفر ظلالاً وأكثر جمالاً. وعاد إليّ صديقي حيـاً يلهمني الشعر ويبث فيّ الحياة من جديد!

*******

في أواسط الثمانينات كنت طبيبة شابة، مندفعة إلى الحياة بروح ثورية تعشق الوطن والثوار. أعمل في المستشفى الوطني، في لجنة فحص الموظفين. كنت يومها أحلم بما تحلم به نجلاء الصغيرة اليوم. نجلاء تعتقد أن والدها أقوى رجل في العالم، يستطيع بقبضته أن يحطّم سوبرمان ويهشّم رأس كينغ كونغ، ويقلع عيون روكي الأميركي!.. وكنت يومها أعتقد أن وطني أقوى وطن في العالم، يستطيع بثواره أن يحطم الصهيونية وينافس التكنولوجيا الأميركية ويقلّم أظافر الدب الروسي ويقص عرف الديك الفرنسي ويحني أكبر تاج بريطاني.. لم أكن أدري أن وطني يشحذ رغيفه ويتسوّل دواءه ويبيع كرامته بورقة تين تستر عورات حكامه!

في مدينتنا، وفي أحد أحيائها، توسط مفترق طرقٍ أطلق الناس عليه "مفترق الموت". ونظراً لإهماله وسوء تنظيمه، لم يكن يمضي أسبوع دون حادث سيارة يحصد أرواح بعض الأبرياء، وخاصة أطفال المدارس الذين يتساقطون كالجراد دون أن يتحرّك ضميرٌ لمسعور (!) أو أن تثور قريحةٌ لشــاعر مأجور.. أحد الأيام نقلوا إلى المستشفى مسعوراً كبيراً كاد يلقى حتفه على هذا المفترق بعد أن اصطدمت سيارته بعمود كهرباء وهو عائد ليلاً مخموراً من سهرة حمراء. بعد الحادث بيومين، ارتكست بلدية المدينة احتراماً للسيد المسعور وقامت بسد إحدى الطرق التي تمر من المفترق لتخفيف الأخطار بحجة أن الوضع الاقتصادي للوطن المواجه لإسرائيل لا يساعد على نصب إشارة ضوئية وذلك على طريقة صاحبنا مختار إحدى القرى عندما ركض إليه مسرعاً أحد الفلاحين البسطاء: دخيلك يا سيدي المختــار.. أدخلت بقرتنا رأسها في خابية الزيت ولم تستطع إخراجه! "بســيطة.. بســيطة.. اقطعوا رأس البقرة" رد المختــار! وعاد الفلاح البسيط يركض ثانية: دخيلك يا سيدي المختار! قطعنا رأس البقرة ولم نستطع انتشاله من خابية الزيت. "بسيطة.. بسيطة.. اكسروا خابية الزيت" رد المختــار!

وهكذا.. فلا عجب أن كان إغلاق الطرق المؤدية إلى المفترق أسهل بكثير على البلدية من نصب إشــارة ضوئية!.. ألا عاشت البلدية وعاش المختــار!

بيت القصيد هنا أنني التقيت بصاحبنا المسعور بعد ثلاثة أشهر أفاق خلالها من غيبوبته كي أقوم بتقييم وضعه الصحي وتحديد مدة الإجازة المرضية اللازمة باعتباري عضواً في لجنة فحص الموظفين رغم معرفتي بأن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فصاحبنا المسعور لا شك في أنه سيحدد المدة بنفسه وما علي أنا سوى أن أوقّع!!

ابتسمت محاولة أن أخفف من أعبائه النفسية غذ تبقى العلاقة بيني وبينه علاقة طبيب بمريض: أنا سعيدة جداً، أولاً لقيامكم بالسلامة، وثانياً، لقد ارتكست بلدية المدينة أخيراً وأجرت بعض الإصلاحات.. ولم أكد أنهي عبارتي حتى تطاير الشرر من عينيه وهو يحدّق في عينيّ: لا يهمني أصلحوا أم لم يصلحوا.. بعد حماري ما ينبت حشيش!..

تصبب العرق من جبيني خجلاً. خرجت من غرفته أتدحرج بدموعي ولسان حالي يقول: أعرف.. أعرف أيها الحمير!! بعدكم لن ينبت في وطني حشيش!!

*********

رفعتُ سماعة الهاتف واتصلتُ بمركز البلدية: أشــكركم، أشــكركم.. لقد أعدتُـم إليّ صديقي كي يلهمني الشعر ويبث فيّ الحيــــاة من جديد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق