الثلاثاء، 1 يونيو 2010

ويحكُم ما أشــدّ نفاقكـم

إنها لمفارقة مؤلمة حتى العظم! قد أكون الإنسان الوحيد في جاليتنا العربية الأبية الذي ارتكس لصرخة الأخ نائل صخر "آه يا غربة" بعد أن شرختني وأضافت إلى سجل تجاربي تجربةً أخرى أشدَّ سواداً. لم أكد أنهي تضميد جراحه ومسح دموعه إلا وجاءني رده على آخر مقالاتي، ورغم أنني لم أستغرب طبيعة الرد، لأنني أدرك أنه يمثل رأي الكثيرين من قرائنا الأعزاء، إلا أنه جرحني عندما ادّعى أنّ آلامي هي نتيجة تجربة شخصية محضة، دون أن يدري أن آلامه هي آلامي!

أوصتك أمك - رحمها الله - أن لا تحني ظهرك، لقد خذلتها وخنت الوصية! إني أتحدى أي عربي مهاجر ينافق بأنه دخل سفارة أجنبية ولم يحنِ ظهره حتى لا مست جبهته نعل أحذيتهم.. أكاد أراك بأم عيني مقهوراً ذليلاً تلقي بجواز سفرك الأردني أمام حضرة السفير الأميركي وتهمس بانكسار فظيع: أنا مليونير أردني، حلمي أن أزور أميركا وأتفرّج على تمثال الحرية - كما قلتُ لهم أنا - أو ربما تبيعني وطنيات وتدّعي أنك قلت: أنا أحد رجال الثورة الفلسطينية، أوصتني أمي أن لا أحني ظهري إلا لألتقط حجراً، إياك أن تمس قضيّتي وإلا أفجّ رأسك بحجري. أو ربما كنت أقل خشونة فقلت: أنا طبيب عربي أعرف من أين ينبع الوداجي وكيف يصب الأبهر لكنني وبتواضعٍ يعربي سأنظف مراحيضكم مقابل الأجر الذي تقترحه سيادتكم.

لقد دخلت عليك أمك في زنزانتك بتصريح من قاضي إسرائيلي رأف على حالتها كما تقول، ألا ترى معي يا طويل العمر أن هذا القاضي رضع من حليب أمه (التي شربت أخلاقيات الغرب فتجاوزت أعتى عنصرية في التاريخ) كيف يتعامل مع إنسانية الإنسان حتى لو كان عدوّه؟!! إنك تمدح أمهاتهم وتخذل أمك من حيث لا تدري أيها الابن البار!

أتمنى - أقولها مجازاً ولا أقصدها - أن تكون مسجوناً في زنزانة عربية لأرى إذا كان الذباب الأزرق سيعرف الطريق إلى جثتك، هل هناك قاضٍ على امتداد الوطن العربي من أول خمارة فيه، إلى آخر بؤرة دعارة، يتجرأ أن يمنح تصريحاً لأم مقهورة، هذا إن تجرأت تلك الأم وطلبت أن تزور ابنها في سجنه؟!! لله أمركم.. لقد قتلني نفاقكم!

تسألني في ردك، "أي تجربة ذاتية سوداء عشتِ بها جعلتك تصبغين هذا اللون على صفات الأم العربية وجعلتك تحلمين بكابوس هارون الرشيد وسوطه". إذا كنت تقصد بكلمة "ذاتية" أن تطعن بي شخصياً، فإني لأشـعر بالشفقة عليك، إذ قد حاول وسقط من كان أقوى وأصلب عوداً، ومع هذا أؤكد لك أنني لم أعش تجربة سوداء واحدة. في كل ثانيةٍ من ثواني حياتي أواجه تجربة أشد سواداً من الليل، وليس شرطاً أن أعيش تجربة شخصية كي أتحسس سوط هارون الرشيد. فأنا امرأة وأجيد قراءة التاريخ! آلامك يا نائل، آلام ستة عشر مليون معذب عراقي، بل آلام مائة وخمسين مليون مقهور عربي هي تجاربي. ألا تكفي مائة وخمسون مليون تجربة لتبرهن فشل الأمهات العربيات في خلق أجيال جديرة بالحياة؟! مع جل احترامي لروح أمك الطاهرة وأم محمود درويش وحافظ إبراهيم ووفاء سلطان!

الفرق بين أمك وأمي يا صديقين أن أمك رحمها الله مارست ولو جزءاً من إنسانيتها في ظل الاحتلال، أما أمي فلا تصدّق حتى الآن أن هناك بقعة على سطح الأرض تستطيع أن تصرخ فيها عندما تُهان!

لقد بكت بحرقة ما زالت تحرقني عندما ودّعتني في المطار وقالت، "أنت أملي الوحيد يا وفاء". وبعد نضال طويل في أروقة السفارة الأميركية ودوائر الهجرة يسعدني أن أهمس في أذنك خبراً مفاده: ستصل أمي إلى لوس أنجلوس الأسبوع القادم وستمارس لأول مرة في خريفها الستين بعضاً من إنسانيتها قبل أن تودّع هذه الحياة.

تذمّني بالتأمرك؟! لله أمـرك. لو أن طفلاً غزاويـاً يرمي حجره، قذفني بهـذه التهمة، لحنيت رأسي على حجره تفجّني وتطهّر خيــانتي. أمّـا أن تأتيني مذمتي من فلسـطيني في ريعـان شــبابه يتنـاول فطوره في McDonalds وغذاءه في Red Lobster’s ويلعب بأزرار مكيّفه كلما ضاقت به حرارة الغرفة، فهذا هو النفاق في أعلى مراتبه وأبشع صوره! من منا يركض نهاره وراء زجاجة كولا تُطفئ نار غربته ولم يتأمرك حتى نخاعه؟!

مصِرٌّ أن تغنّي للأم وللوطن؟!.. غنِّ يا نائل ما شئت غنِّ، ولكن أن تتربع على موائد فنادق بعشرة نجوم، تنفث دخان غليونك وتنوح: من سجن عكا طلعت جنازة.. أحمد جمجوم وفؤاد حجازي.. نادِ عليهم يا قلبي نادِ.

هذا كذب ورياء في زمن لا يرحم!

تناشدني أن لا أنشر غسيلكم !!؟ أقسم لك بالله لم أنشر بعدُ غيضاً من فيضه، ولن أخشى في ذلك لومةَ لائمٍ طالما يساند ظهري زوج حر وشجاع وكريم.

أحلّفك بالتراب الذي ضم جسد أمك الطاهر أن تجيبني على سؤال: لو أن عدوى الحجارة انتقلت إلى الأطفال في كل الشوارع العربية، هل تتوقع أن تكون بنادق حكامنا أرحم من طائرات شوارتزكوف ودبابات إسرائيل؟!!

أرجوك أن تتقن قراءة أشعار محمود درويش قبل أن تغنيها معه كي لا يأتي صوتك نشازاَ. سل شاعرنا الكبير عندما تدندن معه: "للطلقة في صدر فاشستي سأغني"، هل يقصد بالفاشستي فقط ذلك القاضي الذي رأف على حالة أمك فقادها إلى زنزانتك، أم كل الطغاة القضاة العرب الذين لا يستطيع واحد منهم أن يحك مؤخرته إلا بأمر هارون الرشيد!!؟

أنا طبيبة يا نائل، كان الطب ولم يزل محراباً لإيماني، علمتني أخلاق المهنة أن لا أواجه مريضاً نخر السرطان قلبَه والعظامَ بقولي: "إن الأمر لا يتعدّى كونه حمّى عابرة. تناول هذا القرص من الأسبرين وسيكون كل شيء على ما يرام!"

اعذرني، لا أستطيع انطلاقاً من أمانتي العلمية أن أتعامل مع العلل القاتلة كما يتعامل غرّ تعلّم لتوّه كيف يكتب موضوعاً إنشائياً!!

ختاماً، أحب أميركا، سأقولها ما دامت تنبض في الحياة، ولكن خاب فأل من ينكر: إني عربية الهوى، عربية المنى، عربية الفؤاد!

د. وفاء سلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق