الثلاثاء، 1 يونيو 2010

كل إناءٍ بما فيه ينضحُ

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن صحافة مهجرية هابطة. تضاربت الأقوال والآراء حول تحديد العوامل والأسباب. لكنني لم أستطع يوماً أن أستسيغ هذا التعبير لإيماني أنه من الظلم بمكان أن نَصِفَ أحد الفنون بأنه هابط أو راقي المستوى، طالما كان الفن ولم يزل المرآة الصافية التي تعكس الزمان والمكان.

لا يوجد صحافة مهجرية هابطة. يوجد إنسان عربي مهجري ساقط! ولا أعني بالسقوط هذا، الانحلال الأخلاقي بمفهومه الشرقي بقدر ما أعني التقوقع والتشرذم والضياع في عالم كان من المفروض والمتوقّع أن نتجاوز فيه الكثير من اعتباراتنا ونستفيد من أخطائنا التي ارتكبناها في أوطاننا بحق أنفسنا وشعوبنا.

أقول في عالم كان من المفروض والمتوقّع كذا وكذا لأنني أومن بأن هذا لعالم بغض النظر عن كل سلبياته، ما زال التربة الخصبة التي أتاحت لنا أن ننشر بذور الحب والأخوّة، ونرعاها في ظل قوانين جديرة بالاحترام تتيح لكل منا أن يتمتع بحريته ويبدي رأيه دون خوف من ظلمِ حاكمٍ أو تسلّطِ ظالمٍ. لكن، والأسف يتملّكني، عجزنا جميعاً عن تجاوز خلفياتنا ومد جسور المحبة بيننا فجاء نتاجنا وأخصّ هنا الأدبي منه - الصورة الحقيقية لحقيقتنا، شراذم في المهجر كما كنا في الوطن - سخّرت الأقلام والصحف لتجسيد الوضع المهترئ لجاليتنا. والذنب ليس ذنب الأقلام والصحف طالما تنضح بمداد أصحابها.

حان الوقت أن يدرك كل ذي فكر فينا أنّ قلمه ليس ملكه، بل هو ملك لقارئه. علينا جميعاً أن نكون مسؤولين بشكل أو بآخر عما يُكتَبُ. عن أخلاقية ما يُكتَب. على الأقل احتراماً لوقت القارئ. احتراماً لحق القارئ في أن يستمتع برحلة فكرية تُنَفِّسُ هموم يومه الثقيل. لا نريد لصحفنا أن تكون ساحة معارك تتصارع فيها انتماءاتنا واعتباراتنا ومهاتراتنا.

أسلوب الغمز واللمز أسلوب دنيء وجبان ومرفوض في سلم أخلاقياتنا. من أراد أن ينقد فليخرج من وراء الكواليس وليتصدّر خشبة المسرح صائحاً قال زيد كذا وأنا عمرو أقول كذا! وهو بذلك يحترم رأي الآخرين ويفرض على الآخرين احترام رأيه، حتى ولو كانوا على طرفي نقيض. أما أن نطمر رأسنا في الرمل، ونظن أن مخالبنا أطول من أن يتمكن أحد من تقليمها.. فهذا افتراء نغش به أنفسنا ونؤذي به ضمائرنا.

كثرت الأقلام التي تعتمد سياسة المثل الشعبي القائل: "اسمعي يا جارة افهمي يا كنّة". هذه الأقلام تسأل قارئها أن يكون الجارة التي تسمع ولا تعي!

أسلوب الكنّة والحماة والقارئ الضائع بينهما أسلوب زقاقي يرفضه القلم الواعي، المثقف المؤمن بقدرة الكلمة على إعادة خلق الإنسان تربوياً وثقافياً.

أنا لا أقصد صحيفةً ولا أستثني واحدةً. لقد كثر هذا النوع من الكتّاب حتى تجاوزت الأعدادُ حدودَ مقدرتِنا على حفظ الأسماء. يشدّك عنوانٌ برّاقٌ في جريدةٍ مـا، وتغرق بين السطور بحثاً عن حقيقة تجهلُها وستزداد معرفة بمعرفتها. تخرج في آخر المقال لا تعرف القاتل من المقتول ولا سعد من مسعود!

نحن مسؤولون أمام الله وضمائرنا طالما نعيش في بلد تمارَسُ فيه حرية الكلمة وحرية الرأي. مسؤولون عن الأمانة التي حمّلتنا إياها شعوبنا وأوطاننا، فنحن سفراؤهم، نحن رسلهم، نحن باختصارٍ أحرارهم، وعلى أكتافنا ترسو مسؤولية تحريرهم. مسؤولية إعادة خلقهم عقلياً ونفسياً بعد أن شوّهتهم أحقابٌ طويلة من الضغط والقهر والتخلّف والاستعمار.

د. وفاء سلطان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق